Author

عندما يتغير قرارك مع التحولات الاقتصادية الكبرى

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
الاقتصاد هو سلوك البشر، ولقد حاول المختصون في الاقتصاد جهدهم طوال قرون أن يضعوا عليه هالة من العلمانية، علمانية بمعنى إمكانية تفكيك هذا السلوك البشرى إلى مكوناته الأساسية وفهم كيف تتفاعل هذه المكونات بين بعضها، ومن ثم صياغة قوانين تجعل من السهولة التنبؤ بالمستقبل، أو توجيه المستقبل من خلال إعادة تركيب هذه المكونات بطريقة تخدم الإنسان. لقد ظن أساتذة الاقتصاد بأن ذلك ممكن، طالما أن السلوك الإنساني سلوك مادي "طبيعي" فهو يملك في داخله كل ما يكفي لتفسيره، وأن العقل الإنساني الطبيعي قادر على هذا الفهم.
وخلال قرون كان علم الاقتصاد يتأثر تماما بالتحولات التي تتم في علم الفيزياء، فعندما كانت الجاذبية تحكم العلاقة بين الكواكب، والكواكب تؤلف الفضاء، فإن الاقتصاد مكون من كواكب هي رأس المال، والعمال والآلات، الأرض، واليد الخفية هي الجاذبية، عندما تحول علم الفيزياء ليفصل بين القوانين التي تحكم الأجسام الكبيرة والقوانين التي تحكم عالم الذرة، تبدل علم الاقتصاد أيضا، فأصبحت هناك قوانين تحكم الاقتصاد الكلي "اقتصاد الدولة" وقوانين تحكم الاقتصاد الجزئي "عالم الشركة"، عندما كان العالم حتميا والعلاقات محكومة بقوانين لا مناص منها، كان الاقتصاد محكوما بقاعدة الذهب، وعندما أصبح كل شيء تم إيقاف العمل بقاعدة الذهب، وعندها حلت مفاهيم ما بعد الحداثة وأصبح كل شيء يمكن أن يكون صحيحا، أصبحت ليبرالية الأسواق واقعا، وتم تسليع كل شيء تقريبا، وأصبحت الأخلاق مواثيق مكتوبة يتم التوقيع عليها، وأصبحت العملة رقمية. يمكن أن تتلبس كل الأوراق النقدية في العالم، وتحل فيها. التحولات الاقتصادية الرئيسة التي سجلها التاريخ الاقتصادي لم تكن مرتبطة بحروب أو مجاعات، وليست بقرار بنك مركزي، ولا صندوق نقد دولي ولا حتى بمجموعات الضغط أو الدول السبع أو حتى العشرين، إنما كانت مرتبطة تماما بما أصبح الناس يعتقدون ويؤمنون به، لذلك لا تحدث التغيرات الاقتصادية فجأة، بل تأتي كما يأتي النوم فلا أحد يشعر أنه قد أصبح نائما، فهو لا يحدث فجأة بل يتسرب بهدوء، هكذا هي التحولات الاقتصادية، لا تحدث فجأة لكنها تصبح واقعا دون أن نشعر به، ولا نعرف كيف تسربت للحياة. التحولات الاقتصادية ليست المجاعات ولا الحروب وقرارات سعر الفائدة، لأن هذه كلها نتيجة للتحولات الاقتصادية التي سبق وحدثت.
ماذا يعتقد الناس اليوم؟ كيف يرون الطبيعة والحياة، والإنسان والعلاقات؟ بداية، فإن العالم لم يعد يفكر بمنظومة واحدة، لم يعد هناك قطب، ولا حتى أقطاب، أصبح الجميع يقيس العلاقة بحسب تفسيره الشخصي لها، وهذا على مستوى الأفراد والأمم، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصى، وهذا يختلف تماما عن مفهوم المصلحة الشخصية، ليس هذا هو المقصود، بل المقصود التفسير الشخصي، لم يعد أحد بحاجة إلى العلماء ولا الخبراء ولا العلم، الجميع لديهم القدرة على تفسير الحياة بطريقتهم الخاصة، "الأرض يمكن أن تكون مسطحة، والشذوذ سلوك طبيعي، والبحث العلمي مجرد معلومة متاحة عبر الإنترنت"، كل شيء صحيح طالما الشخص يريده أن يكون كذلك. في عالم مثل هذا لا أحد سيهتم بقراراتك الاقتصادية، لا تعتقد أن امتعاضك بشأن سعر سلعة يعني أنه الامتعاض نفسه عند الآخرين لو صرحوا بذلك، مفهوم السعر والرخص والغلاء مختلف بين الناس، ولا تظن أن التضخم الذي تفهمه هو ما يقصده الآخرون، ولا أن أسبابه يمكن تحديدها في معادلة من الدرجة الثانية، فلا تكن في حالة من التعجب لعدم فهمك أسباب الحرب في أوكرانيا، فلا أحد يعرف حقيقة، ولا تتعجب في اختلاف وجهات النظر بهذا الشكل الذي جعل الأمم المتحدة تصفها في تغريدها بأنها عبثية، لا تتعجب من وصول دولة لمرحلة الإفلاس تماما لدرجة انعدام السلع في الأسواق نهائيا، والناس بلا رواتب وفي الوقت نفسه تسجل نفسها من الأعلى في مخزون الذهب، ولا تتعجب من دولة تعد من الدول الأكثر إنتاجا للذهب في العالم، وهي ترزح تحت دين عالمي ضخم. وفي عالم كهذا لا تسمع كثيرا للحديث عن انهيار الأسواق ولا يأخذك الرعب تماما، خذ قراراتك وفقا للمعطيات التي أمامك التي تحدث فعليا، لا تظن أحدا قادرا على رسم سياساته لأكثر من نصف عام دون أن يضع يده على قلبه أو على كنز عظيم.
العملات الرقمية سيدة المشهد العالمي، مهما قيل، أقول ذلك وأنا في كامل قواي العقلية، لن يتراجع البشر أمام سطوة هذا المارد الرقمي، أمام إغراءاته، أمام تسهيلاته، أمام بساطته، لن يعود العالم أدراجه، الأسهم انفصلت عن واقع القوائم المالية أصبحت بذاتها رقمية، لم تعد مرتبطة تماما بالتدفقات النقدية، وتوزيعات الأسهم سيدة الموقف وأفضل من التوزيعات النقدية، لا أحد يهتم بالنقد طالما يمكنه العيش في عالم رقمي، وقد نصل ليوم يمكنك استبدال أسهمك بعملة رقمية أو حتى في البقالة وأنت تشتري حبات الطماطم، المسألة بحاجة إلى تشريعات فقط. في عالم كهذا، فإن مفهوم العقار مختلف بحسب المكان، بحسب الشخص وطريقة حياته، العقار سيكون المشهد الأخير على خشبة مسرح كل شخص منا، لن يكون هذا المشهد واحدا كما هو المشهد في حياة الآخرين، لا تقارن نفسك بأحد، لا من حيث السعر ولا الشكل ولا الحجم ولا المكان، الكل منا له مشهده الاقتصادي الخاص به، هكذا أصبحت القواعد، عندما يكون الشخص بلا منزل، ليس كمن معه، ومن هو موظف ليس كمن هو عضو مجلس إدارة لعدة شركات. من يرى السوق العقارية وهو بائع ليس كمن يراها وهو مشتر، وإذا تحدث كل من هؤلاء في مواقع التواصل، فتأكد أن كلا منهم سيصف شيئا مختلفا تماما، عما تراه أنت.
إنشرها