Author

التحول الرقمي بين الإقدام والإحجام

|
شهد العالم في كل مكان إقداما على التحول الرقمي في ظل فيروس كورونا الخبيث، فقد كان ذلك وسيلة للاستمرار في تنفيذ كثير من الأعمال في شتى المجالات، عبر العالم السيبراني مع المحافظة على التباعد المطلوب لتجنب هذا الفيروس الشرير. واليوم وقد بدأ العد التنازلي لرحيله، نجد جهات تسعى إلى استمرار إقدامها وتقدمها في الاعتماد على العالم السيبراني، كليا أو جزئيا، في كثير من نشاطاتها، ونجد في الوقت ذاته جهات أخرى تتراجع عن هذا الإقدام متبنية الإحجام عن التحول والعودة إلى الوضع الذي كان الأمر عليه قبل كورونا. ولا شك أن هناك فعلا نشاطات تحتاج إلى هذه العودة، لكن هناك أيضا نشاطات كثيرة أخرى تحقق أداء أفضل مع الإقدام على التحول الرقمي وزيادة الاعتماد على العالم السيبراني.
غاية هذا المقال هي طرح مسألة التحول الرقمي عبر بيان الفوائد التي يقدمها، والنظر بأمل إلى الاستفادة من هذه الفوائد على أفضل وجه ممكن. ولعلنا نعود، في بيان هذه الفوائد، إلى نموذجين حاولا حصرها، كل في مجال من مجالات تطبيق هذا التحول. اختص النموذج الأول بفوائد استخدام شبكات آلات الصرافة ATM لتنفيذ خدمات الصرافة المطلوبة، بدلا عن تنفيذ هذه الخدمات في البنوك من خلال موظفيها. جاء هذا النموذج ضمن فصل من رسالة الدكتوراه التي أعدها الدكتور رفيق جمال الدين، في جامعة الملك سعود، وناقشها عام 2001، وقد نشر هذا الفصل كورقة علمية في مجلة محكمة عالمية. أما النموذج الثاني، فقد استند إلى الأول، وركز على الفوائد الناتجة عن استخدام الحكومة الإلكترونية في الحصول على الخدمات الحكومية، وقد نشر هذا النموذج أيضا كورقة علمية عام 2016. وفي العودة إلى هذين النموذجين، سنحاول بتصرف تحديد الفوائد الرئيسة العامة للتحول الرقمي.
يمكن النظر إلى الفوائد العامة للتحول الرقمي من زاويتين رئيستين. ترتبط فوائد الزاوية الأولى بالتوفير في النفقات Saving الناتجة عن استخدام التحول، وتأتي فوائد الزاوية الثانية متعلقة بالمعطيات الجديدة Original التي تفتح آفاقا غير منظورة، أو غير ممكنة دون التحول. وتنقسم فوائد كل من هذين الزاويتين إلى قسمين: فوائد متكررة Recursive، ترافق تكرار نشاطات الأعمال المطلوب تنفيذها، وفوائد غير متكررة Non-Recursive، لا تتكرر مع هذه النشاطات. وتتفرع فوائد كل من هذين القسمين، بعد ذلك، إلى فوائد ملموسة Tangible، وأخرى غير ملموسة Intangible. وسنقدم بعض الأمثلة على هذه الفوائد فيما يلي.
تشمل أمثلة فوائد التوفير في النفقات الحد من التنقل للحصول على خدمة مطلوبة، سواء كانت هذه الخدمة حكومية أو تجارية، أو كانت من أي نوع آخر. ويتضمن ذلك توفيرا في الزمن اللازم للتنقل، وتوفيرا في الطاقة اللازمة لذلك، فضلا عن الحد من التلوث، وكل هذه الفوائد متكررة وملموسة، يأتي تكرارها مع زيادة الطلب على الخدمة المقصودة. ثم هناك أيضا فائدة متكررة أخرى، لكنها غير ملموسة، بل كامنة، وهي الحد من التوتر الإنسانيHuman Tension بسبب التنقل، خصوصا في أوقات الازدحام. وتشمل فوائد التوفير غير المتكرر، أو المتكرر على مسافات زمنية متباعدة، التوفير في إيجارات أو تكاليف ممتلكات مراكز العمل Workplace، وهي فوائد ملموسة. ثم هناك أيضا الحد من تكاليف التعقيدات Complexity التي قد تنتج عن متطلبات الحضور إلى مكان العمل والانصراف عنه.
وتتضمن أمثلة الفوائد الجديدة غير المسبوقة للتحول الرقمي، تأمين بيئة عمل أكثر أمانا. فرغم مشكلات أمن العالم السيبراني Cybersecurity، إلا أن هذا الأمن يتمتع بخصائص تمنحه مناعة أعلى من مناعة أمن العالم المادي لأسباب مختلفة، لعل أبرزها سهولة تعدد وجود المعلومات المخزنة ذاتها في أماكن مختلفة لضمان المحافظة عليها. ويضاف إلى ذلك فوائد ترتبط بتسهيل متابعة إجراءات النشاطات المختلفة، والشفافية الناتجة عن ذلك. ومن الفوائد الجديدة أيضا توفير خدمات معلوماتية للجميع بشأن فرص العمل المتاحة، وفرص ريادة الأعمال الممكنة، ثم هناك فوائد تتمثل في تحسين جودة حياة الإنسان. وللفوائد الجديدة هذه مجال آخر، يتمتع بأهمية كبيرة، ويتمثل في التحول الرقمي المطلوب لتعزيز أداء البنى الأساسية للمدن المعتادة وجعلها مدنا ذكية، وقد تحدثنا عن هذه المدن سابقا في أكثر من مقال.
ولعله يمكن تأكيد حقيقة أنه عندما يكون بالإمكان أداء أي عمل عبر وسائل التحول الرقمي بالشكل المأمول الذي يحقق أهدافه المنشودة، تكون فاعلية هذا العمل قد تحققت. ونتيجة لفوائد التوفير المرتبطة بهذا التحول، تضاف زيادة الكفاءة أيضا إلى نتائج هذا العمل. وبتوفير الزمن والاستجابة للمتغيرات تبرز رشاقة الأداء كزيادة أخرى على ما سبق. وتأتي المعطيات الجديدة للتحول الرقمي، بعد ذلك، لتمثل قيمة مضافة ثالثة يجب الاستفادة منها وعدم نسيانها. ولا شك أن الجميع، في هذا الإطار، أطراف مستفيدة من ذلك. الإنسان الفرد طرف مستفيد سواء كان منفذا للعمل أو مستفيدا منه، وكذلك المؤسسات والشركات بشتى أنواعها ومجالات عملها. وينعكس ذلك بالطبع على المجتمع بأسره، وعلى رفع مستوى أدائه وناتجه المحلي الإجمالي GDP، وعلى التواصل والعمل المشترك داخل الوطن الواحد، وبين الأوطان المختلفة.
لا شك أن التحول الرقمي، ونقل تنفيذ الأعمال والنشاطات المختلفة إلى العالم السيبراني، وبالذات تلك التي تؤدى بالفاعلية ذاتها، قضية مستقبلية رئيسة يهتم بها العالم بأسره. تحمل هذه القضية ثلاث فوائد رئيسة تتضمن: تفعيل الكفاءة، وتعزيز الرشاقة، وتقديم فوائد جديدة غير مسبوقة. وقد أثبتت المملكة، في ظل فيروس كورونا الخبيث، قدرة متميزة على تفعيل التحول الرقمي والتعامل مع العالم السيبراني، في شتى المجالات. والأمل ألا يكون هناك إحجام عن هذا التحول، بل إقدام مستمر فيه. فريادة المملكة في هذا المجال المهم مهمة، فضلا عن حقيقة أن الأجيال الجديدة والمتجددة، في المستقبل لن تقبل إحجام الأجيال التي سبقتها عن التحول الرقمي، بل ستحثها على الإقدام، وعلى الريادة، والاستفادة من المكاسب المشهودة.
إنشرها