السعودية وتفعيل العالم السيبراني

تحدثنا في المقال السابق عن بناء العالم السيبراني في المملكة، حيث أوردنا محطات زمنية شهدت تطور هذا البناء عبر الأعوام، ابتداء من عام 1926 عندما تم إنشاء مديرية البرق والبريد والهاتف، ووصولا إلى إنشاء هيئة الأمن السيبراني عام 2017، وإنشاء هيئة البيانات والذكاء الاصطناعي عام 2019. وركز المقال في متابعته تطور هذا البناء على التقنيات المتجددة للعالم السيبراني، وعلى الهيئات الحكومية التي تولت مسؤولية إدارة شؤونها. وكان من دواعي سعادتي أن قرأ المقال الزميل العزيز الأمير الدكتور بندر المشاري آل سعود، أحد خبراء العالم السيبراني المتميزين، وأطرى عليه مع إبداء ملاحظة مهمة كانت الدافع وراء كتابة هذا المقال.
تقول الملاحظة، إذا كان المقال السابق قد رصد محطات بناء تقنيات العالم السيبراني المتجددة والهيئات المسؤولة عن إدارتها، فماذا عن محطات تفعيل استخدام العالم السيبراني والاستفادة منه؟. فإذا كان توفير التقنية والتمكن من إدارتها أمرا حسنا، كما طرح المقال السابق، إلا أن ذلك غير كاف لبيان صورة تطور العالم السيبراني في المملكة. وعلى ذلك وفي سبيل بيان هذه الصورة، ينبغي الاهتمام أيضا بمحطات تفعيل هذا العالم. ويشمل ذلك جوانب تدعم بناءه وتزيد من إمكاناته، وأخرى تعزز استخدامه وتفعل الاستفادة منه.
لعلنا نبدأ محطات تفعيل العالم السيبراني في المملكة من سبعينيات القرن الـ 20، عندما بدأت تقنيات الحاسوب بالدخول إلى بعض الجهات في المملكة، لتقترن بعد ذلك مع تقنيات الاتصالات التي كانت قد ترسخت بوجود شبكات الهاتف لعدة عقود. ولا شك أن إنشاء مركز الكمبيوتر في وزارة الداخلية عام 1979 الذي أصبح مركز المعلومات الوطني عام 1981، كان من أبرز محطات تلك الفترة. وكان لهذا المركز أثران مهمان في تفعيل العالم السيبراني في المملكة.
جاء الأثر الأول من ملاحظة الحاجة إلى ثروة بشرية مؤهلة في مجالات تقنيات المعلومات. وجاءت الاستجابة الأولى سريعا من جامعة الملك سعود التي أنشأت برنامجين جامعيين في مجالي هندسة الحاسب وعلوم الحاسب عام 1982، ثم أنشأت كلية مستقلة لعلوم الحاسب والمعلومات عام 1984. وقد تطورت هذه الكلية عبر الزمن، حيث بات لديها حاليا خمسة أقسام تخصصية تقدم سبعة برامج بكالوريوس، و11 برنامج ماجستير، وخمسة برامج دكتوراه. ويضاف إلى ذلك أن جميع جامعات المملكة شهدت بعد ذلك استجابات مماثلة، كما أن الجامعات التي تم إنشاؤها فيما بعد احتوت على كليات تختص بتقنيات المعلومات.
تمثل الأثر الثاني لمركز المعلومات الوطني في ملاحظة عدم وجود شركات وطنية مختصة في تقنيات المعلومات. من هذا المنطلق أنشأ المركز شركة العلم للأبحاث والتطوير عام 1986 التي أصبحت شركة العلم لأمن المعلومات عام 2002، ثم تحولت إلى شركة مساهمة سعودية مملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، وحملت الشركة مسمى "علم" ابتداء من عام 2012، وتوسعت نشاطاتها لتشمل تقديم خدمات للقطاع الخاص، إضافة إلى التعاقد مع القطاعات الحكومية لتنفيذ مشاريع مختلفة للدولة. وظهرت خلال هذه الفترة شركات وطنية أخرى مختصة في تقنيات المعلومات.
تم عام 1988 إنشاء جمعية الحاسبات السعودية، ومثل ذلك محطة مهمة من محطات تفعيل العالم السيبراني في المملكة، فقد كانت أول جمعية علمية مهنية غير ربحية تجمع شمل المختصين وتفعل إمكاناتهم في مجالها. وشملت نشاطاتها إقامة المؤتمرات والندوات والمعارض المختصة، ونشر المجلات، إضافة إلى إجراء الدراسات. ولعل أبرز الإنجازات التي قامت بها كان وضع الخطة الوطنية لتقنية المعلومات خلال الفترة من 2002 إلى 2004. وكانت هذه الخطة نقطة انطلاق مهمة أسهمت في تعزيز التوجهات نحو بناء العالم السيبراني في المملكة وتفعيل نشاطاته والاستفادة من معطياته.
ومع انطلاق الإنترنت في العالم، تم عام 1994 السماح لبعض المؤسسات التعليمية والصحية وغيرها بالدخول إلى الإنترنت، ثم تم عام 1997 السماح للمؤسسات الأخرى أيضا، لكن بإذن مسبق. وفي عام 1999 جاء السماح للجميع، وأوكلت مسؤولية تشغيل الإنترنت لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية وذلك حتى عام 2004، حينما تحولت هذه المسؤولية إلى هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات. وتتمتع المملكة حاليا باستخدام واسع للإنترنت، حيث تقول إحصائيات البنك الدولي World Bank: إن عدد مستخدمي الإنترنت في المملكة عام 2019 بلغ 95.7 في المائة من عدد السكان.
ولعل من أبرز التشريعات التي أسهمت في تنظيم التعاملات عبر الإنترنت وتفعيل العالم السيبراني وحمايته من التحديات تمثلت في كل من نظام التعاملات الإلكترونية ونظام الجرائم المعلوماتية. صدر نظام التعاملات الإلكترونية عام 2007 مستهدفا ضبط التعاملات والتوقيعات الإلكترونية، وتنظيمها، وتوفير إطار نظامي لها. وصدر نظام الجرائم المعلوماتية في العام نفسه وشملت أهدافه: المساعدة على تحقيق الأمن المعلوماتي، وحفظ الحقوق المترتبة على الاستخدام المشروع للحاسبات الآلية والشبكات المعلوماتية، وحماية المصلحة العامة، والأخلاق والآداب العامة، وحماية الاقتصاد الوطني.
ولا شك أن الجامعة الإلكترونية السعودية التي أنشئت عام 2011 كانت من أبرز محطات تفعيل العالم السيبراني في المملكة. فقد اعتمدت على تقنيات هذا العالم في توسيع دائرة نشر التعليم الجامعي في المملكة. وتقول رؤية الجامعة: إنها الريادة في استخدام التقنية في التعليم للمساهمة في التنمية الوطنية، وتؤكد رسالتها على توفير التعليم المميز لجميع شرائح المجتمع لتحقيق التنمية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
إذا كان المقال السابق قد طرح محطات بناء العالم السيبراني في المملكة، فإن اهتمام هذا المقال قد انصب على تفعيل هذا العالم عبر دعمه من جهة، واستخدامه والاستفادة منه من جهة ثانية. ولعل من المفيد الإشارة أخيرا إلى أن فيروس كورونا الخبيث مكن الجميع من اختبار مدى فاعلية العالم السيبراني، لأن هذا العالم كان سلاحا في وجه الفيروس، استطاع تمكين كثير من الأعمال المهنية والنشاطات الاجتماعية من الاستمرار رغم ضرورات التباعد. ولا شك أن ذلك أبرز أيضا مدى الفوائد التي يقدمها العالم السيبراني عندما يتم تبني خدماته المتطورة على نطاق واسع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي