Author

إفريقيا تبتعد عن الغرب وتقترب من الصين

|
أستاذ جامعي ـ السويد
قد تكون عيون العام مشدودة صوب شرق آسيا، حيث تمر الصين بتطورات مذهلة، محققة قصب السبق في التنافس على المراتب المتقدمة عالميا في حقول المعرفة والعلوم والصناعة والتكنولوجيا والتجارة والنمو الاقتصادي والتعليم والبحث العلمي.
تحدثنا في هذا المقال عن الصين كثيرا وكانت هناك توقعات، وأظن أن أغلبها صار في المتناول، حيث أمسينا نلحظ تشكل قطب جديد في العالم له من الجراءة والقوة والتأثير للوقوف ندا للقطب الذي حكم العالم ولا يزال منذ أفول نجم الاتحاد السوفياتي في نهايات القرن الماضي.
وإن لم يحدث ما لم يكن في الحسبان، فإن الصين في طريقها ليس إلى مجاراة القوى الأعظم - أمريكا - بل التفوق عليها وتولي زمام شؤون الدنيا.
وربما لم يبق للصين غير ثلاثة مضامير لتحقيق مرادها في قيادة العالم: التخلص من هيمنة الدولار الأمريكي، زيادة الفجوة في حقل الذكاء الصناعي حيث للصين باع أطول في ذلك، وزيادة حجم الاقتصاد الوطني كي يلحق بالأمريكي الذي يشكل حاليا نحو ثلث الاقتصاد العالمي. وتحث الصين الخطى للوصول إلى مرادها.
وكانت الصين من الذكاء للجري إلى أي بقعة من العالم لا تكن الود للغرب الذي تقوده أمريكا، أو لأنها لا تقع ضمن المصالح الاستراتيجية للغرب.
وكانت إفريقيا القارة التي رأت فيها الصين فرصة كبيرة لتنمية صادراتها وتعزيز مكانتها على مستوى العالم. وتعد الصين اليوم أكبر شريك اقتصادي للقارة، حيث بلغت قيمة التجارة لعام 2019 أكثر من 208 مليارات دولار "انكمشت التجارة بعد الجائحة مباشرة إلا أنها في طريقها إلى النمو وبقوة، حسب تقرير بالإنجليزية لوكالة (شينجنوا) الصينية الرسمية".
ووفقا لمجلة "فوربس" الأمريكية، فإن الصين حاضرة بمهندسيها في أي مكان تذهب إليه في إفريقيا، وهم ينفذون أغلب المشاريع التنموية في هذه القارة التي يبلغ عدد سكانها 1.1 مليار نسمة.
وحجم الاقتصاد في القارة - حسب "فوربس" - في طريقه أن يبلغ خمسة تريليونات دولار.
ليس هذا فقط، بل إن معدل النمو الاقتصادي في إفريقيا يعد الثاني في العالم بعد الصين، هذا وفق أرقام صندوق النقد الدولي.
وكأن الصين كانت تقرأ المستقبل عندما دشنت سياستها بالتوجه صوب إفريقيا قبل عقد ونصف العقد تقريبا. الرقم الذي ذكرناه أعلاه حول تجارة الصين مع إفريقيا يقترب من قيمة نصف تجارتها مع أمريكا، وإفريقيا بصورة عامة تعد قارة فقيرة حاليا.
هناك اتكاء على الصين واندماج اقتصادي بينها وبين عديد من الدول الإفريقية، والعالم يتطلع إلى أن تتبوأ إفريقيا في غضون العقدين المقبلين مكانة بارزة في الاقتصاد العالمي.
تشير التوقعات إلى أن تصبح نيجريا دولة عظمى في العقدين المقبلين، مع حجم اقتصاد سيعد الرابع في العالم، بعد الصين والولايات المتحدة والهند.
الوجود الصيني في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وكثير من الدول الآسيوية من الكثافة والاتساع، حيث بدأ يأخذ مناحي إضافية مثل الثقافة والفنون والتربية والتعليم وغيرها. الصين تشمر سواعدها كقوة ناعمة أيضا.
إن تتمدد الصين في محيطها الآسيوي، هذا لعمري أمر طبيعي بيد أن وجودها وبهذه الكثافة وفي شتى الميادين في إفريقيا التي كانت إلى وقت قريب مستعمرة أوروبية كبيرة، ومن ثم في أمريكا اللاتينية، حديقة الولايات المتحدة الخلفية، يتطلب وقفة كبيرة ومراجعة للنفس.
وهذا بالضبط ما تحاول الدول الأوروبية الغربية ذات الإرث الاستعماري فعله، حيث استفاقت حكوماتها إلى ما تراه خطورة الوجود الصيني في القارة السوداء وأخذت ترسم سياسات جديدة لكسب ود دولها وحكوماتها وإبعاد شبح التنين الصيني عنها.
إلا أن هذه الدول ومعها الولايات المتحدة تواجه معضلتين كبيرتين في محاولتها كسب ود القارة السوداء.
المعضلة الأولى، تتعلق بالماضي ليس السحيق، بل القريب. هذا الماضي مليء بالاضطهاد والمآسي ومشوب بعنصرية مقيتة لم يتمكن الغرب حتى الآن التخلص من أدرانها، لأن عروقها مبثوثة في كيانه.
وهذا ما حدا بصحيفة "الجارديان" البريطانية إلى الدعوة الصريحة للغرب، لأن يتصالح مع ماضيه أولا ويشلح رداء العنصرية كي يتمكن من التحدث مع الأفارقة من موقع المساواة وليس موقع السيد والعبد.
المعضلة الثانية، تتعلق بالأفارقة أنفسهم، الذين يرون في الغرب، كمحصلة ليس للماضي القريب فحسب، بل لوقائع الحاضر، شكلا من أشكال الاستعمار براثنه ظاهرة في الثقافة الغربية التي لا تزال تبجل رموزا تلطخت أيديها بدماء الأفارقة واستعبادهم.
الصين لا تعاني أيا من هاتين المعضلتين، لا بل حتى الآن ترى نفسها قرينة للقارة السوداء إن أخذنا وقائع التاريخ في الحسبان.
إنشرها