Author

العالم «بعد» الجائحة

|
أستاذ جامعي ـ السويد
وضعت مفردة "بعد" بين علامتي التنصيص، ليس للدلالة على أنني أسندها إلى مصدر ما، بل للتعبير أننا ما زلنا على مسافة بعيدة عن عالم خال من الجائحة، تعود الحياة فيه إلى سابق عهدها، وقد شلحنا الأردان التي كانت ترافقها ولبسنا حللا أجمل.
هناك سيل من الكتابات حول أن العالم الذي عشناه قبل الجائحة سيكون مختلفا كثيرا عن الحياة في كنف عالم يخلو منها.
بمعنى آخر، أن التغير حاصل لا محالة وسيكون له تبعات إيجابية تزيل بعض مكامن الشر في الإنسان ويعم الخير وتخف حدة الصراع والتنافس والفروقات.
إن أردت أن تعرف معادن الناس، امتحنهم في الشدائد، وأظن أننا لم نؤد الامتحان بصورة مرضية ونحن في عراك مع الجائحة، لا، بل أخفقنا إنسانيا في طريقة مقاومتها واحتوائها.
لقد شهدنا صراعا كبيرا مرده التفاوت في السلطة والجاه والمال والقوة على مستوى الدول بغية احتكار المواد الطبية وغيرها. كان مظهر الدول الغنية والقوية، وهي تتعارك وتتبارى لحماية نفسها على حساب دول أخرى، مخيبا للأمل.
وها نحن اليوم نشهد كيف أن الأقوياء والأثرياء من الدول همهم الأول تطعيم مواطنيهم لحمايتهم من الإصابة بالفيروس المسبب للجائحة دون اكتراث للوضع في الدول الفقيرة أو الأقل ثراء وسطوة.
واللقاح ذاته جرى تسييسه واحتكاره كأي منتج آخر يخضع لسياسة السوق والاقتصاد والربح والخسارة والطلب والعرض.
وامتد الصراع خارج نطاق إنتاج اللقاح إلى محاولة مكشوفة لضرب أي لقاح منافس، وكأننا في سوق الباعة الجائلين، الذين همهم ترويج وبيع بضاعتهم أولا وأخيرا.
اسم الدولة أو الشركة المنتجة للقاح يحدد مدى نجاعته، حتى إن كان اللقاح المنافس فيه من الخصائص ما يوازيه أو يتفوق عليه.
فرغم أن اللقاح الروسي أو الصيني أو الهندي لها من الخصائص ما لدى اللقاحات الأخرى، إلا أننا ما زلنا ننظر إلى تلك التي تنتجها الشركات الغربية وكأنها الأفضل من الأوجه كافة، والأمر ليس كذلك.
حتى اللقاحات التي تنتجها الشركات الغربية ذاتها جرى إقحامها في الصراع للاستحواذ على سوق لقاحات كورونا التي تقدر بأكثر من 50 مليار دولار.
انظر - مثلا - إلى اللغط الذي رافق لقاح شركة أسترازينيكا للأدوية، وهي شركة سويدية - بريطانية وواحدة من أرقى الشركات الغربية في إنتاج المستحضرات الطبية والصيدلانية والدوائية.
وفي تقرير مطول عن لقاح أسترازينيكا، وصفت هيئة الإذاعة البريطانية ما حدث لهذا العملاق الصيدلاني من تشويه للسمعة بالشيء "المريع".
قد لا يعرف كثيرون إلا أن "أسترازينيكا" رفضت الحصول على أي أرباح من بيع لقاحها، حيث عرضته بسعر التكلفة الذي كان أقل بكثير من المتوافر من اللقاحات الغربية الأخرى.
وها قد ظهر أن كل ما أثير، ومن أعلى المستويات السياسية وغيرها في الغرب ضد لقاح أسترازينيكا المؤثر والسليم، ما كان إلا لغطا ليس من العسر وضعه ضمن سياق اللعبة الرأسمالية للسيطرة على الأسواق.
كانت "أسترازينيكا" قد تعاقدت على إنتاج مليارين من الجرعات من لقاحها، وبعد اللغط الذي حدث، يخشى العالم الآن أن تنسحب هذه الشركة العريقة والوحيدة التي قدمت لقاحها بسعر التكلفة "دون أي ربح" من "لعبة" إنتاج اللقاحات ضد الجائحة.
لقد تحولت "أسترازينيكا" إلى كبش فداء وكرة تقاذفتها أقدام السياسيين الغربيين في لعبة الإنحاء باللائمة وعدم تحمل المسؤولية عن تفشي الجائحة في دولهم. إذا كان هذا يحدث للقاح ينتظره البشر بفارغ الصبر للبقاء على قيد الحياة، فما عسى يكون الحال عندما يتعلق الأمر بالبضائع التجارية مثل الأسلحة، والمواد الغذائية والصناعية، وغيرها؟
والأنكى، فإن كل هذا اللغط حول لقاح أسترازينيكا، والكم الهائل من المعلومات والأخبار الكاذبة، التي رافقته، وقعت في ساحة الدول الأكثر تحضرا ورقيا وديمقراطية وإنسانية في العالم، أو هكذا يتصور كثيرون.
لنا أن نتخيل كيف سيكون وضع لقاح سليم وناجع ومؤثر تنتجه دولة لا سطوة لها لو أصبح "كرة قدم" في ساحة الاحتكار والرأسمالية الغربية؟
زرت الأسبوع الفائت، الطبيب، لإجراء فحوص عامة. وفي خضم الحديث، تطرقنا إلى مسألة اللقاحات وناجعتها والمعركة الدائرة حولها.
قال الطبيب، إنه ينتظر بفارغ الصبر نتائج لقاح تطوره كوبا، حيث أسبغ المديح على نظامها الصحي وتطورها في الطب والمستحضرات الصيدلانية.
قلت، "لقاح كوبي! هل سيصمد بعد الذي حدث لأسترازينيكا؟".
أجاب الطبيب، "حتى الجائحة لم تفلح في كبح نزعة التفوق والمصالح وعدم المساواة فينا".
إنشرها