Author

دورة المعرفة .. نظرة نحو تفعيل التنمية

|
تحدثنا في المقال السابق عن توظيف المعرفة والاستفادة منها، وناقشنا أفكارا عدة حول هذا الموضوع، كان بينها فكرة لبيتر دركر Peter Drucker، الملقب بأبي الإدارة الحديثة. تقول هذه الفكرة إن المعرفة تحيا في التطبيقات. تحمل هذه الفكرة دعوة إلى تطبيق المعرفة، لأن المعرفة وما يبذل في اكتسابها تبقى عاطلة عن التأثير ما لم تأخذ طريقها إلى التطبيق، وتطبيق المعرفة يعني بالطبع الاستفادة منها من قبل صاحب هذا التطبيق، وربما آخرون أيضا يعمل على خدمتهم. وعلى هذا الأساس، دعا المقال السابق إلى نظرة متكاملة إلى النشاطات المعرفية، لأن نشاط توظيف المعرفة والاستفادة منها الذي يفعل التنمية ويعزز استدامتها ليس معزولا عن النشاطات المعرفية الأخرى، بل يرتبط بها ويعتمد عليها.
غاية هذا المقال هي طرح نظرة تكاملية إلى النشاطات المعرفية المختلفة تتطلع إلى توظيف المعرفة من أجل الاستفادة منها. وتشمل النشاطات المعرفية هذه تبعا لتقرير المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم، اليونيسكو UNESCO، حول مجتمع المعرفة: المحافظة على المعرفة Preservation، ونشرها Dissemination، وتوليدها Creation، وصولا إلى العمل على توظيفها Utilization. وتدعو هذه النظرة إلى عدم عزل التفكير في أي من هذه النشاطات عن التفكير في جميع النشاطات المعرفية الأخرى، بل جعله شاملا ومنفتحا ومدركا لتكامل هذه النشاطات في خدمة التنمية اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا. وسنناقش هذا الأمر، فيما يلي، من أجل كل من النشاطات المعرفية الأربعة، في إطار التفكير التكاملي المنشود.
تسعى نشاطات المحافظة على المعرفة إلى بناء مناجم المعرفة وتحديثها باستمرار وتوفيرها للنشاطات المعرفية الأخرى، ليس كي تنهل منها فقط، بل كي تسهم في الإضافة إليها أيضا. ولا شك أن عصر الإنترنت والفضاء السيبراني الذي نعيش فيه قد أعطى فيضانا من المعلومات يحمل الغث والسمين. الغث الذي لا فائدة منه، أو الذي يشغل الإنسان عن أي عمل مفيد مستهلكا إمكاناته، أو ربما الذي يحمل الغش والضرر إليه. والسمين الذي يملأ العقل بالأفكار والمعاني المنيرة، والمعرفة المفيدة القابلة للحياة في التطبيقات المختلفة، في شتى المجالات العلمية منها والإنسانية، والقادرة بالتالي على الإسهام في التنمية اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا. وعلى كل باحث، بل على كل إنسان، ومؤسسة أيضا، البحث عن المعرفة، من مختلف المصادر، والحرص على فصل الغث عن السمين، كي تأخذ المعرفة المكتسبة طريقها إلى التفعيل والتوظيف وتقديم معطيات مفيدة.
وننتقل إلى نشاطات نشر المعرفة ووسيلتها الأساسية هي التعليم، وإلى جانبها أيضا وسائل الثقافة والإعلام والتواصل عبر الإنترنت بكل أشكاله. إذا نظرنا إلى التعليم من خلال النظرة التكاملية المقترحة التي تشمل النشاطات المعرفية الأخرى، فلعلنا نجد أمامنا ثلاثة تساؤلات رئيسة. التساؤل الأول هو هل تستجيب مناهج التعليم إلى متطلبات الحياة، حيث تقدم المعرفة التي يحتاج إليها الإنسان، ويحتاج إليها المجتمع، من أجل توظيفها والاستفادة منها وجعلها حية في التطبيقات الفعلية في شؤون الحياة؟ والتساؤل الثاني هو: هل تتمتع مناهج التعليم بالمرونة الكافية للاستجابة لمتطلبات الحياة المتجددة، حيث يمكن إضافة ما يلزم واستبعاد ما لا يلزم في هذه المناهج عند الحاجة؟ ويأتي التساؤل الثالث بعد ذلك قائلا: هل تعطي مناهج التعليم وأساليب التقييم فيه فرصة كافية للطلاب للتفكير والحوار والشغف في الموضوعات المختلفة، حيث يصبح التعلم ممتعا ومفيدا لا يكتفي بتقديم المعرفة، وإنما يسعى إلى تجددها أيضا؟ وهناك تساؤلات بمضامين مشابهة جوهرها الاستجابة لمتطلبات الحياة في المجتمع المستهدف يمكن توجيهها إلى وسائل نشاطات نشر المعرفة الأخرى.
ونأتي إلى نشاطات توليد المعرفة التي تحتاج أيضا إلى نظرة تكاملية، وغايتها أيضا هي التفاعل مع متطلبات الحياة والاستجابة لتجددها. وبالطبع، فإن مصدر توليد المعرفة، اكتشافا وإبداعا وابتكارا، هو الإنسان وتفاعل إمكاناته الذهنية ومواهبه مع الطبيعة من حوله، وشغفه بها، وسعيه إلى التأثير في معطياتها. ولا شك أن للبحث العلمي في كل من الجامعات والهيئات المختصة ومؤسسات الأعمال دورا كبيرا في توليد معرفة مفيدة قابلة للتوظيف يحتاج المجتمع إلى فوائدها في مسيرته نحو تفعيل التنمية وتعزيز استدامتها. ولا بد في هذا الإطار، من التأكيد على الحاجة إلى تعاون بحثي وثيق وخطط معرفية مشتركة بين هذه الجهات من أجل تفعيل دور المعرفة في تحقيق تطلعات المستقبل. فالابتعاد عن هذا التعاون يجهض مسيرة البحث العلمي والابتكار المفيد ويعيق استمراريتها ويوقف معطياتها. ولا بد من المحافظة على هذه المسيرة من أجل التنمية. في هذه المسيرة أفكار نظرية، وتوجهات تطبيقية، وتطوير تجريبي، وإعداد للمخرجات، وصولا إلى توظيف لهذه المخرجات وتقديم منتجات معرفية مبتكرة تلقى ترحيب السوق، ومعطيات معرفية متجددة ومبتكرة أيضا تفيد المجتمع.
تستند نشاطات توظيف المعرفة إلى النشاطات المعرفية الأخرى التي تتضمن حفظ المعرفة، ونشرها، وتوليدها، وتؤدي نتيجة لذلك إلى الاستفادة من المعرفة، وتفعيل التنمية اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا وتعزيز استدامتها. وعلى هذا الأساس يمكن وصف النظرة التكاملية إلى النشاطات المعرفية من خلال ما يمكن أن ندعوه بدورة المعرفة. تنهل هذه الدورة طاقتها من الإنسان وتفاعله مع الطبيعة من حوله، ومن نشاطات حفظ المعرفة المفيدة ومتابعة تجددها وتراكمها عبر الزمن. وتبرز في مكونات الدورة بعد ذلك نشاطات نشر المعرفة، وعلى رأسها التعليم، إضافة إلى الثقافة والإعلام والمصادر المختلفة عبر الإنترنت. ويلي ذلك نشاطات توليد المعرفة بالاكتشاف والإبداع والابتكار والتعاون بين الجهات ذات العلاقة. وصولا إلى توظيف المعرفة، والاستفادة منها وتفعيل التنمية وتعزيز استدامتها.
تعطي دورة المعرفة نظرة تكاملية للنشاطات المعرفية في المجتمع، تسعى إلى توجيه مسيرتها نحو تفعيل المعرفة المفيدة القابلة للتوظيف، وتقديم الفوائد والإسهام في التنمية وتعزيز استدامتها. وتشبه هذه الدورة دورة الإلكترونات في أسلاك الدوائر الكهربائية. فإذا كانت دورة الإلكترونات تقدم الطاقة وتنير الحياة وتجعلها أكثر رفاهية، فإن دورة المعرفة المفيدة القابلة للتوظيف تقدم أكثر من ذلك، لأنها تتميز بفوائد واسعة المدى تتمدد في كل الاتجاهات لتقدم معطيات بغير حدود.
إنشرها