Author

مسألة توظيف المعرفة والاستفادة منها

|
توظيف المعرفة والاستفادة منها مسألة مهمة تستحق أن تكون في الأذهان في كل زمان ومكان، فالمعرفة بكل أشكالها ثروة تستحق أن تستثمر اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا. ولعلنا نبدأ هذا المقال باستعراض بعض الأقوال المطروحة في هذا الشأن من قبل مصادر متميزة مختلفة، والهدف هو إلقاء الضوء على رؤية هذه المصادر لأهمية هذه المسألة. ولعل من المناسب أن يكون القول الأول لشاعر وكاتب شهير هو جبران خليل جبران. يقول جبران: "معرفة قليلة يجري أو يمكن توظيفها والاستفادة منها خير من معارف كثيرة عاطلة أو غير قابلة للتوظيف وتقديم الفوائد". وجوهر هذا القول أن المعرفة التي نريدها ونبحث عنها يجب أن تكون مفيدة وتكون أيضا قابلة للتوظيف كي يمكن الاستفادة من فوائدها. وبالطبع ينطبق هذا الأمر على كل مجالات المعرفة العلمية منها والإنسانية.
القول الثاني في هذا المجال لبيتر دركر Peter Drucker الاسم المتميز في عالم الإدارة. يقول دركر: "المعرفة تحيا في التطبيقات". ويعبر هذا القول عن حقيقة أن المعرفة دون تطبيق سواء حالي أو مستقبلي، تكون ضائعة وبلا أثر. ونأتي إلى القول الثالث وهو بمنزلة شعار صدر عن الجانب الأوروبي من مؤسسة ماكينزي McKinsey الاستشارية المعروفة. يقول هذا الشعار: "المعرفة بالنسبة للشركات هي دم الحياة". ويشير هذا القول إلى حاجة الشركات إلى معرفة متجددة تجدد الدماء في عروقها كي تقدم منجزات متميزة تبقيها في الصف الأول بين المتنافسين.
ونصل إلى القول الرابع الذي لا يقل أهمية بشأن المعرفة وفوائدها، عن الأقوال الثلاثة السابقة. صاحب هذا القول هو لويس بلات Lewis Platt الذي كان رئيسا لشركة هيوليت باكارد HP للحاسبات. يقول بلات: "لو أن هيوليت باكارد عرفت ما تعرفه هيوليت باكارد لأصبحت إنتاجيتها ثلاثة أضعاف ما هي عليه". يحمل هذا القول نقدا واحتجاجا على حالة قائمة في شركته من جهة، ودعوة لاهتمام أكبر بالمعرفة فيها من جهة أخرى من أجل إنتاجية أفضل. الاحتجاج يأتي نتيجة عدم تمكن الشركة من التعرف على الإمكانات المعرفية القائمة لدى العاملين فيها، وعدم استطاعتها بالتالي العمل على توظيفها والاستفادة. والدعوة تأتي إلى القيام بهذا التعرف والسعي إلى توظيفه والاستفادة من معطياته، والتوقعات الناتجة عن ذلك هي مضاعفة الإنتاجية ثلاث مرات. وقد كان قول بلات دافعا نحو تفعيل موضوع إدارة المعرفة في المؤسسات، خصوصا أن ما قيل عن هيوليت باكارد ينطبق أيضا على شركات ومؤسسات كثيرة أخرى حول العالم.
بعد ما سبق من أقوال مهمة، ننتقل إلى طرح النشاطات المعرفية الرئيسة التي ينبغي الاهتمام بها في التوجه نحو تفعيل المعرفة وتوظيفها والاستفادة منها. تشمل هذه النشاطات طبقا لتقرير المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم، اليونيسكو UNESCO، حول مجتمع المعرفة، أربعة أبعاد رئيسة هي: المحافظة على المعرفة Preservation، ونشرها Dissemination، وتوليدها Creation، إضافة إلى توظيفها Utilization. ونلقي الضوء فيما يلي على كل من هذه النشاطات، تمهيدا لتقديم توصية بشأنها.
نجح الإنسان عبر الزمان في المحافظة على المعرفة، وتجددها وتراكمها، وإسهام الأجيال فيها، وذلك بوسائل مختلفة، كانت مادية الطابع كاللوحات الحجرية، ثم الورق، إلى أن جاء عصر الحاسوب والإنترنت. وهكذا باتت الوسائط الإلكترونية هي وسائل حفظ وتنظيم المعرفة. وتبدو هذه الوسائل في الوقت الحاضر كأنها تحاول تجاوز الأوراق والأقلام، من خلال تلقي المعرفة إلكترونيا، عبر لوحات مفاتيح الحاسوب، وربما عبر الصوت، وحفظها بكميات كبيرة، وعرضها على الشاشات عندما يحتاج إليها الإنسان. بذلك أصبحت الإنترنت وفضائها السيبراني، وما على مواقعها من معلومات، مكتبة مكتبات العالم الجامعة للمعرفة والمتفاعلة مع مستخدميها.
ترتبط نشاطات نشر المعرفة بالدرجة الأولى بمعطيات التعليم والتدريب والتعلم الذاتي، وتتعلق بدرجة أقل بما تقدمه وسائل الثقافة والإعلام، وما تعطيه وسائل التواصل الاجتماعي، فضلا عن معطيات المجتمع في بيئة النشأة. ولئن كان التعليم هو المسؤول الأول عن نشر المعرفة، فإن هذا النشر يجب ألا يكون سلبيا، أي ناقلا للمعرفة فقط، بل أن يكون إيجابيا أيضا يضيف إلى هذا النقل بناء القدرة على التفكير وعمق الفهم واستيعاب المعرفة، إضافة إلى الإسهام في توليدها وتجددها. وللعالم الشهير ألبرت أينشتاين Albert Einstein قول مهم في التعليم هو: يجب ألا يقتصر التعليم على تلقي الحقائق، بل أن يشمل أيضا تدريب العقل على التفكير. أي إن التعليم التلقيني غير كاف، ولا بد للتعليم الناجح أن يكون تفاعليا يركز على التفكير أيضا.
ونأتي إلى نشاطات توليد المعرفة التي تتعزز بالتفكير والتعليم التفاعلي، وتعتمد بالدرجة الأولى على البحث العلمي، كما تعتمد أيضا البيئة المحيطة وثقافة الشراكة المعرفية، والاهتمام بالإبداع، والتوجه نحو الابتكار في المجتمع وفي المؤسسات. وللبحث العلمي في شتى المجالات معطيات معرفية تتدرج على مستويات متعددة بين تقديم معرفة متميزة غير جاهزة آنيا للتوظيف وتقديم فوائد فعلية مباشرة، وبين إعطاء معرفة تتمتع بالجاهزية المباشرة للتوظيف والاستخدام وجني الفوائد.
ونصل هنا إلى نشاطات توظيف المعرفة التي تستند إلى معرفة معطاة في تقديم منتجات فعلية يحتاج إليها الإنسان وتحمل قيمة له، سواء مادية أو معنوية. مثل هذه القيمة تجعل الإنسان مستعدا إلى دفع ما يقابلها كي يحصل عليها ويستمع بفوائدها. وتؤدي مثل هذه القيمة إلى الإسهام في التنمية، فقد تستجيب هذه القيمة إلى احتياجات محلية تؤدي إلى خفض الحاجة إلى الاستيراد، وربما تستجيب إلى احتياجات خارجية، تقود إلى التصدير، لتسهم بذلك في التنمية الوسيلة المنشودة لتحقيق رفاهية المجتمع وتقدمه.
يوضح ما سبق أن النشاطات المعرفية نشاطات مترابطة، يجب الحرص على تكاملها، بدءا من التعليم والإعداد المعرفي للناشئة، ومرورا بالبحث العلمي والتطوير والإبداع والابتكار، ووصولا إلى توظيف المعرفة والاستفادة منها، وجعلها مؤثرة في التنمية اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا. ولنا عودة، في مقال مقبل بمشيئة الله، إلى مناقشة مسألة السعي إلى وضع النشاطات المعرفية في إطار دورة متكاملة تقود إلى توظيف فاعل للمعرفة، يدعم التنمية ويعزز استدامتها.
إنشرها