Author

بين مشهدي التعليم والحياة .. ماذا علينا أن نفعل؟

|
لعلنا نبدأ هذا المقال بثلاثة آراء ينتمي أصحابها إلى ثلاثة مصادر مختلفة. الرأي الأول روته الدكتورة ميرفت التلاوي السفيرة والوزيرة والأمينة العامة السابقة للمجلس القومي للمرأة في مصر. روت الدكتورة ميرفت، في مقابلة تلفزيونية، ما قالته أم مصرية ريفية، لم تحظ بمستوى متقدم من التعليم، وذلك في أحد اللقاءات النسائية بالمسؤولين، من خلال ما لاحظته في أبنائها. قالت هذه الأم ما معناه "الولد يدخل المدرسة نبيها لكنه يخرج منها غبيا"، وفي ذلك بالطبع شكوى أم من أثر التعليم في أبنائها، ودعوة إلى مراجعته وتطويره ليتمتع بتأثير إيجابي، لا سلبي، على ذكاء الأبناء.
ليس الرأي الثاني من أم عربية أيضا، بل هو من شاب أمريكي يدعى إدي زونج Eddy Zhong نجح مبكرا في مجال الأعمال نجاحا متميزا، عبر الإبداع فيه، حيث بدأ هذا النجاح عام 2015 عندما كان في الـ 16 من العمر وكان طالبا في المرحلة الثانوية. يقول هذا الشاب: إنه لم يكن طالبا متفوقا، بل كان بين طلاب الدرجة الثالثة في فصله، وذلك حتى الـ 14 من العمر، ويضيف أن مسابقات مقترحات الأعمال، وليست المدرسة، هي من أبرزت مواهبه وأطلقتها نحو النجاح. ويقول في التعليم: "إن مستوى ذكاء الطالب ينخفض في كل يوم يذهب فيه إلى المدرسة، رغم ما يتلقاه من معرفة"، ودليله على ذلك هو نجاحه المتميز في الحياة رغم تأخره عن زملائه في المدرسة". ويلتقي رأي هذا الشاب الأمريكي في التعليم مع رأي الأم المصرية، رغم الفوارق بينهما، والفوارق بين نظامي التعليم في بلديهما.
يأتي الرأي الثالث من كين روبنسون Ken Robinson الأكاديمي البريطاني في مجال التعليم، وصاحب كتاب "العنصر The Element" الذي يقول فيه: في كل إنسان عنصر تميز عليه اكتشافه، وعلى المجتمع أن يساعده على ذلك، لأن اهتمامه بهذا العنصر يقوده إلى تحقيق نجاح أفضل في الحياة مهنيا واجتماعيا. يقول روبنسون، "إن التعليم في وضعه الحالي يحد من الإبداع"، ويرى أن هذا التعليم لا يغطي مختلف جوانب الحياة، والعناصر الكامنة في البشر، كما يجب أن يكون، بل يهتم بجزء محدود منها فقط".
لا بد، قبل مناقشة الجوانب السلبية التي تحملها هذه الآراء الثلاثة، مختلفة المصادر، حول التعليم في الوقت الحاضر، من طرح الجوانب الإيجابية التي يتمتع بها هذا التعليم. فلا شك أن التعليم، بشكله وأنظمته الحالية ومناهجه الرئيسة، التي نشأت في القرن الـ 19، وانتشرت بعد ذلك حول العالم، كانت وراء كل الإبداع والابتكار والمنجزات المعرفية التي يتمتع بها الإنسان في الوقت الحاضر، في كل مكان من هذه الأرض. وإذا كان هناك سلبيات تكتشف من قبل كثيرين، خصوصا مع تغيرات العصر وتقنياته المتجددة وتحولاته المتسارعة، فإن هناك مشكلة في تطور التعليم واستجابته لمتطلبات الحياة الحديثة يجب تحليلها وبيان متطلباتها. وتستوجب هذه المشكلة عملا ينبغي الاهتمام بتحديده، ورسم خريطة طريق للسعي إلى تنفيذه.
إذا نظرنا إلى هذه المشكلة ومتطلباتها، نجد أنفسنا أمام خمسة محاور مترابطة. يشمل المحور الأول: مشهد التعليم في الوقت الحاضر الذي يجب مراجعته واستيعاب جوانبه المختلفة ومكامن القوة ومواطن الضعف فيه. ويضم المحور الثاني: مشهد الحياة في هذا العصر ومعطياته ومتطلباته ودور التعليم في الاستفادة من المعطيات والاستجابة للمتطلبات في المستقبل. أما المحور الثالث فيتضمن رسم مشهد التعليم كما يجب أن يكون عليه استجابة لمشهد الحياة ومتطلباته، وإسهاما في التفاعل معه وإثرائه. ويأتي المحور الرابع للتعريف بالفجوة بين مشهد التعليم في الوقت الحاضر ومشهد التعليم كما يجب أن يكون في المستقبل. ثم يبرز المحور الخامس ليهتم بوضع خريطة طريق لردم هذه الفجوة، والعمل على الالتزام بمسار هذه الخريطة من أجل الوصول إلى مشهد التعليم المنشود.
لا شك أن هذه المشكلة، بمحاورها الخمسة ليست جديدة، فكثير من الدول والمنظمات الدولية والمؤسسات المختصة، تسعى، بل تتنافس على تطوير التعليم، بمراحله كافة، والابتكار فيه. ولعل بين الجهود المشهودة في هذا المجال توجهات بوصلة التعلم Learning Compass، الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، والساعية إلى تحقيق رفاهية المجتمع في بيئة متغيرات العصر. في هذا الإطار، طرحت البوصلة الحاجة إلى إدراك أهمية التعليم والحاجة إلى تطويره من قبل الجميع خصوصا أصحاب العلاقة المباشرة فيه. ورأت البوصلة أن التعليم يتضمن أربعة متطلبات أساسية، وأربعة أخرى ترتبط بالتأهيل العام، إضافة إلى ثلاث صفات إنسانية رئيسة ينبغي للمتعلم التحلي بها.
شملت المتطلبات الأساسية لبوصلة التعلم: المعرفة، ومهارات الحياة الإدراكية والاجتماعية والمادية، والقيم الأخلاقية، والمواقف التي يتخذها الإنسان في توجهاته. وتضمنت متطلبات التأهيل: تجاوز الأمية، والتأهل في التقنية الرقمية، والمحافظة على الصحة، والعلاقة والتعاون مع الآخرين. وتمثلت الصفات الإنسانية المنشودة بعد ذلك في توجهات الإنسان نحو: البحث عن قيمة يقدمها، والسلوك الإيجابي بعيدا عن التوتر، إضافة إلى تحمل مسؤولية الأعمال التي يقوم بها. وقد تحدثنا عن بعض هذه المتطلبات بتفصيل أكبر في مقالات سابقة.
يحتاج العالم بأسره إلى مشهد جديد للتعليم يتواءم مع متطلبات مشهد الحياة في هذا العصر، وإذا كانت الدول والمنظمات والمؤسسات تتنافس على ذلك، وتسعى إلى التميز فيه، فإن هذا الأمر يأتي حرصا على بناء مستقبل أفضل لأجيالها الصاعدة، والإسهام في بناء عالم أفضل للجميع في المستقبل. ولعل من المناسب هنا إبراز الحاجة إلى حوار عام حول مستقبل التعليم في المملكة، يسهم فيه الجميع، ويجمع الآراء والتوجهات، وينظر إلى أفكار الآخرين وتجاربهم، ويدرس مشهد التعليم حاليا، ويهتم بالمتطلبات المستقبلية لمشهد الحياة، ويرسم طريق المستقبل، ويسعى إلى السير فيه، من أجل حياة أفضل للأجيال المتجددة، ودور أكبر لأمة "اقرأ" في الحضارة الإنسانية.
إنشرها