Author

اقتصاد العقد القادم بلا تنبؤ

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
أكد الأمير عبدالعزيز بن سلمان وزير الطاقة السعودي، خلال أعمال الندوة الـ11 لتوقعات مستقبل الطاقة، أننا الآن في وضع أفضل بكثير مما كنا عليه العام الماضي، وهذا خبر جيد، لكنه عاد وحذر من الإفراط في التفاؤل لأن مستوى عدم اليقين عال جدا، فقد كانت أحداث العام الماضي قاسية. وبعبارات جميلة جدا ستظل خالدة في التاريخ، قال وزير الطاقة السعودي إن "المباراة ما زالت تلعب، ومن المبكر جدا الاحتفال أو إعلان أي انتصار على الفيروس، فلم يطلق حكم المباراة صافرة النهاية بعد". وقال أيضا في عبارات جميلة، "إن محاولة التنبؤ بالمستقبل، حتى القريب منه، غير ذات جدوى، وإن أفضل ما علينا عمله هو أن نزيد من استعدادنا ومرونتنا، مدركين أن العمل الجماعي هو الطريق المثالى لمواجهة التحديات المقبلة، وفي هذا الصدد، فإن الحديث عن عدم جدوى التنبؤ موجه أيضا إلى أولئك الذين يحاولون توقع تحرك دول اتفاق "أوبك +"، وأقول لهم: لا تحاولوا التنبؤ بما لا يمكن التنبؤ به".
هذه عبارات رائعة بكل معنى الكلمة، وهي تعكس حقائق الاقتصاد العالمي اليوم.
القلق من المستقبل أصبح ظاهرة اقتصادية عامة، ليست في أسواق النفط فقط، بل أصبحت حقيقة اقتصادية راهنة في كل الأسواق تقريبا، وليس السبب فيها فيروس كورونا فقط، بل إن الفيروس نفسه وانتشاره وآثاره قد أتت وتفاعلت بسبب هذه الظاهرة الخطيرة، فالاستثمارات في الصحة تأخرت كثيرا بسب القلق الذي يعم العالم، ومن كان يتابع عددا من المحللين العرب، خصوصا قبل أزمة كورونا بأكثر من عام، يجد كما هائلا من القلق والتخويف، بل إن بعضهم كان يجزم بالانهيار الاقتصادي رغم عدم وجود مثل هذا المفهوم في النظرية الاقتصادية. ويبقى السؤال الأبرز بلا إجابة، لماذا هذا التخوف وعدم التيقن؟ ولماذا هو بهذا الحجم؟ في محاول للإجابة، أقول: إننا نمر بمرحلة تحول اقتصادي شامل تعجز عن تفسيره النظرية الاقتصادية الحالية، ولا يوجد نموذج حالي قادر على حل المسألة، فلم تعد الرأسمالية التنافسية والأسواق الحرة قادرة على تفسير التدخل الكبير للصناديق السيادية ورغبة الحكومات في تعظم عوائدها وإيراداتها مثلها في ذلك مثل حملة الأسهم، ولا يمكن لمفاهيم السوق الحرة التي كانت تدعي قدرتها على تحفيز الجودة أن تبرر سيطرة الآلة على العمل وخروج الآلاف من العمال إلى الوظائف هشة غير قادرة على شراء إنتاج الآلة، رغم كثافته وجودته. وإذا كانت النظرية الرأسمالية قائمة على فكرة توزيع الدخل التي تقول: إن نصيب الآلة منه هو فقط ما يبقيها صالحة للعمل، وسيطرة الآلة اليوم على جميع الوظائف يجعل نظرية التوزيع عرجاء تماما، فلم يبق عمال لأخذ نصيبهم من الدخل وإعادة إنفاقه لشراء الإنتاج، ولم يعد من أمل لبقاء مستويات الإنتاج الحالية إلا أن تتنامى حصة الآلة من التوزيع إلى ما فوق حاجتها إلى البقاء، وهل مثل هذا يفسر الآن أسعار "بيتكوين". مع الأسف، لا توجد لهذه الأسئلة عندي إجابات قاطعة، ذلك لأنه لا يوجد لدينا رصيد من المعرفة والعلم قادر على تفسير هذه الظواهر ومن ثم وصف المستقبل، ولهذا نعيش كل هذا القلق. ومع ذلك، فإن هذا التفسير ليس كافيا.
لعل أكثر ما يجعلنا نعيش القلق من المستقبل الاقتصادي، ليس الخوف من الحياة نفسها، بل الخوف من تبدد الرفاهية، فهي تعني - ببساطة - قدرتنا على الشراء المستمر، وتحمل أقساط الترفيه بكل أنواعه، وهذا القلق يأتي من مشكلة استدامة التدفقات النقدية لنا، بمعنى أن نحصل على الدخل نفسه أو أفضل بشكل مستمر طوال حياتنا. فالاستثمارات اليوم ضخمة، لكنها غير مستدامة، وأسعار الأسهم قد تقفز غدا بشكل تاريخي، والمحظوظون الذين في المراكب العائمة قد يجدون الموجة التي تأخذهم إلى أعلى قمتها، وفجأة يصبحون أصحاب الثروة، لكنهم في قلق لأنها غير مستدامة، بمعنى أن وجودهم بمحض المصادفة في الموجة يجعلهم يتساءلون عن مستقبلها ومستقبلهم معها، فهل ستتوقف عن النمو؟ أم هناك موجة أخرى والبعض يريد أن يقفز على مراكبها؟
فالاقتصاد القائم على الموجات هو اقتصاد مقلق بشكل يدمر معنى الحياة فينا، بعكس تلك الاستثمارات أو المهن أو الأعمال التي تدر علينا تدفقات نقدية منتظمة، وتشعرنا بكثير من الثقة والاطمئنان عن الغد، لكن هذا النوع من التدفقات النقدية المنتظمة يواجه اليوم ضعفا حادا مع تراجع نسب الفائدة بشكل لم يسبق له مثيل، حتى وصلت إلى مستويات دون الصفر، والاستقرار عند هذه العوائد المتدنية لا يتناسب مع الضجيج الذي يعم العالم، ويدفع الفرد منا نحو الجنون. والقرار الذي يحيرنا جميعا هو الاختيار بين القبول بتدفقات نقدية منتظمة تتناقص، سواء من استثمارات أو رواتب وأجور أو إيجارات، أو المقامرة في الموجات والقفز بينها، هذا هو القلق. هذا هو الذي نعيشه اليوم.
إنشرها