Author

على أطلال مهنة

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
لم يكن يوما عابرا ذلك اليوم الذي جلست فيه على طاولة اجتماعات بيضاوية الشكل، وبدأ عدد قليل من الطلاب الجدد بالتوافد عليها، ستة طلاب من مناطق مختلفة ومشارب متعددة كلهم ينتظرون دخول الدكتور، وفجأة فتح باب القاعة الصغيرة التي تقع في أول ردهة بعد مدخل قسم المحاسبة في جامعة الملك سعود، ودخل رجل مهيب جدا، صارم القسمات، سريع العبارات، سلم وجلس وبدأ فورا بالحديث بلغة إنجليزية فصيحة، ذات لكنة أمريكية واضحة، تحدث بطلاقة ولمدة تزيد على الساعتين، ثم توقف وشكر الجميع وغادر القاعة. عندها أصابني الذهول والخوف والإحساس الغامر برغبتي في مغادرة البرنامج، والقسم والكلية، بل حتى الرياض كلها، شعور هائل جدا بالعجز، وعدم القدرة على مجاراة هذا العملاق، ورهبة ضخمة من فصل دراسي سيستمر لمدة قد تزيد قليلا على 15 أسبوعا، وبرنامج للماجستير سيستمر عامين. وخرجت لا ألوي على شيء، وأنا أتذكر حديث بعض الأصدقاء عن صرامة الدكتور عبدالرحمن الحميد، وجديته في العمل، وعدم تساهله في علم المحاسبة، ورغم القلق الشديد ومثل كل الطلاب الآخرين عادة، نعود بكل خوفنا إلى المقاعد والدراسة، ومعنا بعض عزمنا على المواصلة، لكن بمرور الأيام ظهر من خلف صورة الأستاذ المهيب غير المكترث بفهم طلابه، أستاذ بارع جدا وللغاية في تخصصه، أستاذ لا يقول كلمة لا يعنيها، بروفيسور يجعلك تعشق المحاسبة ويجبرك جبرا على التعلم والسباحة في بحورها بلا خوف ولا قلق من المبادئ الأساسية ولا الإطار المفاهيمي، ولا المعايير، يحلق بك في عوالم الأرقام، والقوائم والتقارير المالية، يسافر بك عبر محيطات من المعايير المعقدة ذات الخلجان المتعددة، يريك فنون العمل والتخصص، ويبهرك في كل محاضرة بالجديد. وهكذا، تحول الخوف إلى رغبة جامحة جدا في العلم، والفهم، ولماذا جاء المعيار المحاسبي بهذا الشكل، ولماذا تحول وبماذا استقر. لم تكن طلاقة الدكتور الحميد في اللغة الإنجليزية، ولا حتى لكنته الأمريكية الجميلة، قيدا يمنعك من الفهم والاستمتاع بسحر علم المحاسبة نفسه. وفجأة! وبلا سابق إنذار، انتهى الفصل الدراسي، رغم الشعور العميق عندي بالحاجة إلى مزيد من الدراسة والتعلم. لقد وضعني الدكتور الحميد على الطريق ثم رحل.
رحل العميد، رحل العبقري، رحل البروفيسور القدير عبدالرحمن الحميد، إلى جوار ربه، بعد أن ألهم آلاف الطلاب، ومحبي علم المحاسبة بكل فروعه، بعد أن ألف ونشر كثيرا جدا في المحاسبة، وأسس كثيرا من الهيئات والجمعيات، وعلى رأسها الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين، والجمعية السعودية للمحاسبة، وأسهم في أعمال هيئة المحاسبة والمراجعة لدول مجلس التعاون، والاختبارات المهنية، وقاد التحول إلى المعايير الدولية، وعمل أعواما في مجلس منطقة الرياض، وفي كثير جدا جدا من المؤتمرات والندوات والمؤسسات العلمية والأعمال الاستشارية، وبعد أعوام طويلة في خدمة دينه ووطنه، نحسن الظن به كما عهدناه ولا نزكي على الله أحدا. واليوم، وعلى نشيد ذكراه، أتذكر أجمل عباراته، التي حافظ عليها طوال حياته وقالها أمامي مرات كثيرة: "الاستقلال لا يخدش، وإذا خدش انقضى"، واليوم تقف كل مهنة المحاسبة أمام هذا التحدي، تحدي الاستقلال المهني، وأشعر بأننا نقف فعليا أمام أطلاله.
لقد قامت مهنة المراجع الخارجي للحسابات على أكتاف الاستقلال، وتدعم هذا القول فلسفة المنظمة وفلسفة الوكالة، وهناك كم هائل من الأوراق والرسائل العلمية، التي تجعل مجرد التفكير في نقض هذه النظريات ضربا من العبث الفكري والهرطقة التي لا يلتفت إليها. والاستقلال كما تعلمناه نوعان، استقلال يختص بالمراجع الخارجي نفسه واستقلال يمس المهنة، فالاستقلال الذي يمس المراجع قد يأتي من خلل في موضوعيته عند إبداء رأيه في القوائم المالية، واستقلال يمس نطاق عمله عن جمع الأدلة، واستقلال يمس قدرته على إبداء الرأي وتبليغه، ولكل استقلال مقام ومقال، وإذا خدش الاستقلال انقضى، وإذا حدث ذلك، فإن رأي المراجع كأنه لم يكن، ووقته وجهده بلا جدوى، لكن هذا الاستقلال رغم أهميته الكبيرة، يصعب اختباره تجريبيا، وفحصه والتأكد منه، ويبقى مسؤولية المراجع نفسه. ومع ذلك، فإن هناك أدلة تظهر على السطح قد تشير نوعا ما إلى ضعف الاستقلال في بعض هذه المجالات أو كلها، مع ضعف لجان المراجعة والحوكمة للشركات كلها. في الجانب الآخر من الاستقلال، وهو الأهم، استقلال المهنة كلها، وظهورها أمام المجتمع كمستقلة عن أي مهنة أخرى، وأنه لا يتأثر من أي نوع على قدرة المهنة في تحديد المعايير الواجب اتباعها، ولا تأثير في قدرتها على مساءلة أي مراجع كان عن عمله، وأن المهنة بذاتها تحدد تشريعاتها، وهي التي تراقب تنفيذ المعايير الخاصة بها، ولأن الاستقلال إذا خدش انقضى. فإذا رأيت المراجعين الخارجيين يتسابقون على الدخول في لجان المراجعة للشركات، ورأيت المراجع الخارجي في شركة ما هو عضو اللجنة في شركة أخرى ويختار زميلا مهنيا هو أيضا عضو لجنة المراجعة في الشركة التي يقوم الأول بمراجعتها، وإذا رأيت المراجع الخارجي نفسه يقوم بأعمال المراجع الداخلي من خلال عقود الاستشارات، وإذا المهنة قد أصبحت تشرف على مهن أخرى وتحدد من ينضم لها ومن يخرج منها، فإننا نقف اليوم على أطلال الاستقلال المهني، ونحن نودع صاحب مقولة: "إذا خدش الاستقلال انقضى".
إنشرها