الهند تتقرب من بنجلادش لقطع الطريق على الصين

منذ قيام بنجلادش ككيان منفصل عن الدولة الباكستانية عام 1971 وعلاقاتها مع جارتها الهندية الكبيرة في صعود ونزول بحسب الحزب الحاكم في دكا. فتارة تتميز هذه العلاقات بالحرارة وتارة أخرى بالفتور، علما أنه لولا الدور الحازم للهند في الحرب البنجلادشية ـ الباكستانية لما قامت بنجلادش أصلا كدولة مستقلة بعد أعوام طويلة كانت فيها مجرد جناح شرقي مهمش لباكستان. وكان الملاحظ دوما في هذا السياق أن دكا كلما ابتعدت عن نيودلهي اقتربت من بكين منافسة الأخيرة على النفوذ في جنوب آسيا والمحيط الهندي في عملية مناكفة وابتزاز واضحة.
اليوم يبدو جليا أن نيودلهي، في محاولة منها لإغلاق الطريق أمام بكين لجهة توسيع نفوذها في بنجلادش، قد أفاقت على حقيقة أن ترك علاقاتها مع الأخيرة دون إعادة الدفء إليها سيؤدي إلى مراهنة الأخيرة كليا على الصين التي لا تخفي طموحاتها في بناء نفوذ استراتيجي لها في الدول المحيطة بالهند من خلال ضخ المساعدات المتنوعة على نحو ما فعله الصينيون بنجاح حتى الآن في باكستان وميانمار وسريلانكا، بمعنى أن حكومة رانيدرا مودي رئيس الوزراء الهندي قررت تجاوز الملفات المعيقة لتقارب البلدين من تلك التي لها علاقة بالحدود والهجرة والعمالة والمياه، كسبا لثقة وصداقة الحكومة البنجلادشية الحالية برئاسة الشيخة حسينة واجد، التي تحكم منذ عام 2009. هذا علما بأن هذه الملفات كانت تطفو على السطح من وقت إلى آخر مسببة تخريب علاقات البلدين الثنائية، وتحديدا ملف هجرة العمالة البنجلادشية المسلمة غير الشرعية من بلادهم إلى ولاية آسام، وهو ملف لطالما أثاره الناشطون والسياسيون المتطرفون من أعضاء حزب بهارتيا جاناتا الحاكم في نيودلهي لأغراض انتخابية. يلي هذا الملف في الأهمية ملف نهر تيستا المشترك بين البلدين الذي يبلغ طوله نحو 414 كيلومترا، وكان سببا في خلافات عميقة منذ عام 1947 ولا سيما في حالات حدوث فيضانات خلال مواسم الأمطار الغزيرة المعروفة بـ "المونسون"، حيث اشتكت دكا مرارا من قيام الهنود ببناء سدود على النهر لتوليد الطاقة الكهربائية وتجميع المياه لأغراض الري في ولاية البنجال الغربية.
فخلال الأشهر القليلة الماضية لوحظ قيام نيودلهي بسلسلة من المبادرات تجاه جارتها الشرقية تمثلت في تنشيط التجارة البينية والتجارة العابرة بين البلدين. فعلى سبيل المثال بادرت الهند بتسيير قاطرات حاملة بالديزل ومختلف السلع لمواجهة احتياجات بنجلادش الملحة من الوقود والبضائع المتنوعة التي حال دون وصولها تقادم السكك الحديدية البنجلادشية وعطبها المتكرر وعدم قدرة حكومة دكا على تجديدها. وفي الوقت نفسه أرسلت الهند إليها نحو 55 قطارا محملا بنحو 125 ألف طن من البصل "المادة الأساسية في وجبات عشرات الملايين من البنجلادشيين"، حيث تعد الهند من أكبر مصدري البصل على مستوى العالم، ومصدرا لنسبة 75 في المائة من واردات بنجلادش من هذه السلعة الغذائية، كما أرسلت قطارا خاصا من ولاية جوجرات إلى دكا "تبعدان عن بعضهما بعضا مسافة 1370 كيلومترا" محملا بنحو 400 طن من الفلفل الأحمر وهو أيضا سلعة غذائية لا يستغني البنجلادشيون عنها في طعامهم اليومي. علاوة على ذلك عملت على تنشيط حركة الانتقال ما بين البلدين بزيادة عدد رحلات السكك الحديدية اليومية.
المشهد الآخر للمبادرة الهندية حيال جارتها الشرقية تجسدت في الاتفاق مع حكومة الشيخة حسينة واجد في شهر تموز (يوليو) المنصرم على أن تستخدم الهند ميناء شيتاجونج البنجلادشي، الذي كان لزمن طويل محط أنظار الصينيين، لإيصال البضائع والسلع المختلفة إلى ولايات الهند الشمالية الشرقية مثل ولاية تريبورا، حيث إن التضاريس الجبلية والمسافات البعيدة تحول دون تزويد تلك الولايات بما تحتاج إليه من خلال الموانئ الهندية المعروفة. وفي الوقت نفسه فتحت دكا ميناء مونجلا البنجلادشي القريب من حدودها مع الهند لمساعدة الأخيرة على اختصار عملية نقل البضائع الهندية من ميناء كلكتا في ولاية البنجال الغربية إلى ولاية تريبورا "تبعدان عن بعضهما بعضا بمسافة 1650 كيلومترا" وأخواتها بنحو 500 كيلومتر. وهذه البادرة البنجلادشية، من جهة أخرى، يمكن أن تساعد دولا أخرى مستوردة للمنتج الهندي مثل ميانمار وبوتان ونيبال.
رغم كل هذه المبادرات الهندية، إلا أن مجاميع كبيرة من الطلبة والناشطين في بنجلادش تنظر بعين الريب والشك تجاه الهند من منطلقات أيديولوجية بحتة، خصوصا أن هناك من يغذي هذا المنحى ممثلا في التيار الإسلامي السياسي المتطرف ذي الجذور العميقة في البلاد منذ أن كانت جزءا من باكستان محمد علي جناح، خصوصا بعد قيام نيودلهي بإقرار قانون جديد للجنسية في نهاية عام 2019 يتضمن منح الجنسية الهندية للمضطهدين دينيا من غير المسلمين من أولئك النازحين إلى الهند من باكستان وأفغانستان. ولعل أوضح دليل هو المظاهرات التي انطلقت في بنجلادش بمجرد العلم بقرب زيارة رئيس الحكومة الهندي مودي إلى دكا في آذار (مارس) المنصرم للمشاركة في احتفالات مئوية (أبو الاستقلال) الشيخ مجيب الرحمن والد الشيخة حسينة واجد، وهي الزيارة التي تم تأجيلها بسبب تداعيات انتشار جائحة كوفيد - 19.
أما الصين فقد استغلت شكوك البنجلادشيين تجاه الهند لمصلحتها، دافعة بمزيد من استثماراتها باتجاه بنجلادش لبناء مزيد من الطرق والموانئ والبنى التحتية المتنوعة. وفي الوقت نفسه ألغت الرسوم الجمركية على نحو 97 في المائة من وارداتها من السلع بنجلادشية المنشأ، الأمر الذي أسهم في تضييق فجوة العجز التجاري في المبادلات التجارية التي ظلت طويلا لمصلحة الصين. المثير في هذا السياق هو أن باكستان حليفة الصين الاستراتيجية دخلت على الخط، محرضة بنجلادش على العمل مع الصين بدلا من الهند، ومبدية استعدادها لتسهيل ودعم أي اتفاقات صينية ـ بنجلادشية.
والحال أن هناك صراعا متفاقما في جنوب آسيا للاستفراد ببنجلادش ومصادرة قرارها السياسي، خصوصا أن اقتصادها حقق نموا بلغت نسبته عام 2019 نحو 8 في المائة لولا وباء كورونا الذي تسبب في هبوطها إلى النصف تقريبا في العام الجاري.
والحقيقة أنه إذا أرادت نيودلهي استرجاع بعض ما خسرته في بنجلادش صاحبة الاقتصاد المقدر قيمته بمبلغ 316 مليار دولار، والمحتاج إلى مزيد من الطاقة في الأعوام المقبلة، فعليها أن تبادر إلى تقديم استثمارات مغرية لجاراتها، كأن تلبي معظم حاجتها من الطاقة الكهربائية، وتسعى لإيجاد حل مرض لتقسيم مياه نهر تيستا المشترك، وتواجه بذكاء مخططات الصين لمصادرة قرار دكا من خلال مشروع الطريق والحزام الصيني الخبيث.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي