Author

ثلاثية مخرجات الابتكار: المعرفة والقيمة والسوق

|
طرحنا في مقال سابق خمس خصائص للمبتكر، وبينا أن كل إنسان يمكن أن يكون مبتكرا، خصوصا في المجال الذي يتميز فيه، حيث إن لكل إنسان مثل هذا المجال كامن فيه. وطرحنا في المقال أيضا دعوة إلى جميع الجهات المكونة للبيئة المحيطة بالإنسان إلى دعم إمكاناته، وتفعيل هذه الخصائص فيه، وتعزيز مسيرته نحو العطاء. وشملت الخصائص الخمس التي تم طرحها: "وعي الإنسان بالحاجة إلى الابتكار، وشعوره بالمسؤولية تجاه الإسهام فيه، وسلوكه الأخلاقي في السعي إليه، ثم التعرف على تميزه الشخصي والعمل على تعزيزه، والتركيز على الجاهزية المعرفية لديه، حماسا وعزيمة وجهدا، والاهتمام بالحالة الذهنية التي يجب أن تكون نامية فيه، ناهيك عن السعي إلى تنميتها واستعدادها للعطاء، إضافة إلى الارتقاء بالإمكانات الفكرية عبر تفعيل الشراكة المعرفية، والاستفادة من الحوار مع الآخرين وما لديهم من أفكار لتوليد مزيد منها".
ينتقل هذا المقال من خصائص "المبتكر" الخمس، سابقة الذكر، إلى ثلاثية "مخرجات الابتكار" التي تشمل "المعرفة والقيمة والسوق". فعلى كل مبتكر أخذ هذه الثلاثية في الحسبان، في تقديم "مخرجاته" كي تأخذ دورها المنشود في تحقيق طموحاته والإسهام في تنمية مجتمعه. "المعرفة" في هذه الثلاثية هي مصدر الابتكار، هي "جوهر المخرج" الذي يقدمه المبتكر وقلبه النابض. أما "القيمة" فهي "الأثر" الذي يحمله "المخرج"، وهذا الأثر هو مبرر وجود المخرج، ويجب أن يكون مفيدا وجذابا للمستفيدين المستهدفين. ويأتي بعد ذلك "السوق" التي تمثل "مقصد المخرج"، وتتكون من هؤلاء المستفيدين، وتتطلع إلى نيل رضاهم، أو رضا قطاع كبير منهم. فإن استطاع المخرج توقع ذلك باحتمال عال، يكون قد أصبح جاهزا "للاستثمار" الذي يسعى إلى "إنتاجه"، وإلى طرحه في السوق، والاستفادة من "معطياته".
ينطلق مخرج الابتكار، كما أسلفنا، من "المعرفة" التي يمكن أن تكون "جديدة وغير مسبوقة"، أو تكون متجددة تعطي "وجها جديدا متميزا لمعرفة سابقة". ويقودنا هذا الأمر إلى طرح موضوع "المعرفة" في مخرجات "الاكتشاف والإبداع"، وصولا إلى مخرجات "الابتكار"، ضمن الإطار الجامع للعطاء المعرفي، أي إطار البحث العلمي. فالبحث العلمي طبقا لتصنيف "منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم: يونسكو UNESCO" يشمل الاكتشاف والإبداع والابتكار، ويقسم نشاطاته ومخرجاته إلى "خمسة أقسام" رئيسة متسلسلة. ترتبط الأقسام الثلاثة الأولى "بالاكتشاف والإبداع" وتقدم معرفة جديدة أو متجددة، ويتعلق القسمان الباقيان "بالابتكار"، ويهتمان بتطوير المعرفة الجديدة والمتجددة، ونقلها إلى أرض الواقع لتفعيل قيمتها وتوسيع دائرة الاستفادة منها.
يشمل القسم الأول من أقسام البحث العلمي، تبعا لتقسيم "يونسكو"، "البحوث الأساسية الخالصة" التي تقدم معرفة جديدة أو متجددة شعارها الفعلي "المعرفة من أجل متعة المعرفة"، دون تصور واضح لآفاق الاستفادة منها. ويضم القسم الثاني "البحوث الأساسية الموجهة"، التي تعطي معرفة تتطلع من بعيد إلى احتمالات التطبيق في المستقبل. أما القسم الثالث، فيهتم "بالبحوث التطبيقية"، التي تستهدف معرفة جديدة أو متجددة قابلة للتطبيق وتتطلع إليها. ويأتي القسم الرابع، بعد ذلك، ليضع النقاط على الحروف، ويدفع المعرفة القابلة للتطبيق، التي تحمل قيمة للمجتمع، نحو "بحوث التطوير والتجريب"، ثم يكمل القسم الخامس هذا العمل لينفذ ما يمكن من هذه البحوث ويعطي من خلال ذلك "تجسيدا للمخرج الأولي" للابتكار المنشود. ويتمثل هذا المخرج في "منتج"، قد يكون: "سلعة، أو خدمة، أو إجراء عمل، أو حلا لمشكلة، أو أي عطاء معرفي مفيد آخر يحمل قيمة للمجتمع وأبنائه".
على أساس ما سبق، نجد أن "المعرفة" التي يحتاج إليها الابتكار هي تلك "القابلة للتطبيق"، التي تعطي منتجا يحمل قيمة يمكن الاستفادة منها. وعلى ذلك، فإن كل المعارف التي يقدمها البحث العلمي، في شتى المجالات، هي بمنزلة "النهر الجاري" الذي يمد المبتكر بالأفكار، وعلى المبتكر، سواء أسهم أو لم يسهم في توليد هذه الأفكار، أن يتلقاها بعين الباحث عن "قيمة" فيها، وعن وسيلة لتجسيد هذه القيمة في "منتج متميز" يستطيع مجتمع ما أو قطاع من الناس الاستفادة منه.
هناك مجالات عدة "لطبيعة مخرج الابتكار"، فقد يكون هذا المخرج، كما أسلفنا، سلعة، حيث يقدم في هذه الحالة "قيمة اقتصادية" مباشرة تتمثل في "توليد الثروة" من أرباح السلعة في السوق، و"تشغيل اليد العاملة" من أجل إنتاج هذه السلعة. وقد تكون هذه السلعة جديدة تماما تحمل قيمة غير مسبوقة، أو قد تكون سلعة جرى تحديثها "بقيمة وظيفية" مطورة، أو "بقيمة فنية حسية أو شكلية" تعزز تسويقها، أو ربما بالاثنتين معا.
وقد يكون "مخرج الابتكار"، كما أسلفنا أيضا، نموذجا جديدا في العمل، يستهدف كفاءة أعلى، أو حلا لمشكلة خدمة إدارية في المؤسسات، أو مشكلة خدمة اجتماعية في مجتمع من المجتمعات، أو غير ذلك من المعطيات "الإجرائية" التي تسهم في تحسين مسيرة عمل، أو أسلوب حياة، نحو الأفضل. مثل هذه المخرجات تحمل "قيمة أولية في مجالها" الإداري أو الاجتماعي أو الإنساني، وقد تحمل "قيمة اقتصادية" أيضا، نتيجة تحقيقها توفيرا في النفقات، أو تأثيرها الإيجابي في تفعيل إنتاجية العاملين، أو ربما قدرتها على تعزيز تنافس يحفز مزيدا من الابتكار والتجديد.
يظهر أثر قيمة كل ابتكار، أيا كان نوعه، في "السوق التي يقصدها". وهذه السوق هي أولئك المستهدفين بالاستفادة منها. فلكل "سلعة مبتكرة" قطاع من المستفيدين، ولكل "نموذج أو أسلوب إجرائي مبتكر" بيئة عمل، أو حياة مجتمع، تستفيد منه. ويتمثل نجاح أي "مخرج" من مخرجات الابتكار في مدى استقبال السوق التي يستهدفها له، فدون هذه السوق تضيع "القيمة" التي يحملها المخرج، وتتوارى بالتالي "المعرفة" التي يستند إليها عن الأنظار. وهكذا، نجد أن على "مخرجات الابتكار" أن تحرص على الترابط بين "المعرفة التي تستند إليها، والقيمة التي تحملها، والسوق التي يستهدفها". فمهما كان مستوى الجدة في المعرفة مرتفعا، ومهما كانت القيمة العلمية عالية، لن تكون مخرجات الابتكار ناجحة إلا بمدى قناعة السوق التي تستهدفها بفوائدها.
إنشرها