العمالة الزراعية وكثرة الإنتاجية
إن العمالة الزراعية التي تتخلف عن الركب تصبح هي أيضا أكثر إنتاجية، ففي حالة تشغيل عدد كبير من الأشخاص في قطعة الأرض نفسها، قد تكون الإنتاجية الحدية لكل فرد منهم منخفضة للغاية. وحين يترك بعض الأشخاص العمل، ترتفع إنتاجية من تبقى من العمالة الزراعية، حيث لا يطرأ تغير يُذكر على الناتج الكلي، وهو ما يؤدي إلى زيادة أجورهم.
ومن هذا المنطلق، يستفيد العاملون من الفئتين من الالتحاق بالدراسة -حتى أن العمالة محدودة المهارات في القطاع التقليدي قد تحقق منافع أكثر. وهذه الآثار هائلة ولها دور رئيسي في تحديد شكل توزيع المكاسب الاقتصادية المتحققة من التعليم. وينبغي أن تكون أساس أي نقاش حول دور التعليم في تحسين الكفاءة وزيادة العدالة على مستوى الاقتصاد.
وتسلط هذه الظاهرة الضوء على نقطة مهمة أخرى. فالآثار الكلية والتوزيعية للتعليم تتوقف على تطور طلب أصحاب العمل على العمالة الماهرة. وفي العقود الأخيرة، عادت أوجه التقدم التكنولوجي الكبير بالنفع على العمالة ذات المهارات العالية أكثر من سواها. وكان هذا التغير التكنولوجي القائم على المهارات دافعا رئيسيا وراء تزايد عدم المساواة في الولايات المتحدة، حيث لم يشهد الالتحاق بالكليات توسعا بالسرعة الكافية لمواكبة الطلب المتزايد على العمالة الماهرة.
وكان لهذا التفاعل بين التعليم والتكنولوجيا دور مهم في تحقيق مكاسب الدخل للفقراء في أنحاء العالم. ودون إحراز تقدم تكنولوجي، لكان للتعليم آثار أضعف على النمو الاقتصادي. وفي الوقت نفسه، لولا التوسع في التعليم، لأدى التغير التكنولوجي إلى تحقيق نمو ضعيف، ولعاد هذا النمو بالنفع على مجموعة أضيق بكثير من العمالة الماهرة، خاصة في البلدان منخفضة الدخل. وفي عالم يتسم بتزايد الاعتماد المتبادل بين المهارات والتكنولوجيا، ينبغي لسياسات التعليم والابتكار المضي جنبا إلى جنب. وبعبارة أخرى، ليس من المبالغة أن يكون التعليم قد دفع النمو الاقتصادي بشكل أكبر بكثير مما فعله التغير التكنولوجي، أو عولمة التجارة، أو العوامل الأخرى. وفي المقابل، لا يزال الجمع بين الالتحاق بالدراسة والتحولات الاقتصادية الكبرى الأخرى هو العامل الأساسي في الحد من الفقر المدقع.
وضعت المؤسسات الدولية والحكومات المختلفة التعليم الأساسي للجميع في صميم جدول الأعمال بشأن السياسات من أجل الحد من الفقر لسببين. أولهما: وجود تصور عام بأن العائدات على رأس المال البشري آخذة في التناقص، مع تحقيق التعليم الأساسي أعلى المكاسب. والسبب الثاني: أن زيادة فرص الحصول على التعليم الأساسي تعود بالنفع على الأسر المعيشية منخفضة الدخل أكثر من سواها، ولا سيما في الاقتصادات الأقل نموا التي يقتصر الحصول على التعليم العالي فيها على قلة من الصفوة.
وعلى الرغم من هذا، قد يتبين خطأ هذين القولين في كثير من البلدان. ويوضح البحث الذي أجريتُه، على عكس التصور الشائع، أن العائدات السنوية للدراسة من حيث دخل الشخص لا تكون أكبر في المستويات الأدنى من التعليم،
والحقيقة أن هذه فروق شاسعة لها انعكاسات كبيرة على آثار السياسات التعليمية المختلفة على الاقتصاد الكلي. وعلاوة على هذا، قد تكون للتوسع في إتاحة الحصول على التعليم العالي آثار إيجابية غير مباشرة كبيرة على العمالة الأقل تعليما، على النحو الذي خلص إليه التحليل الذي أجريتُه.
يركز نقاش آخر على ما إذا كان يجب الاستمرار في التوسع في إتاحة الحصول على التعليم أو التركيز على تحسين جودة التعليم. وتوضح درجات الاختبارات، التي يمكن مقارنتها على المستوى الدولي تدني مستوى جودة التعليم للغاية في الاقتصادات النامية. وقد دفع هذا الأمر المؤسسات الدولية والاقتصاديين بشكل متزايد إلى التأكيد على ضرورة إعطاء أولوية للجودة من أجل تعزيز التنمية الاقتصادية.
والحقيقة أن صناع السياسات والاقتصاديين أحيانا لا يقيِّمون السياسة التعليمية بالطريقة نفسها التي يتبعونها بشأن العوامل الاقتصادية الأخرى، فهم يفترضون أن التعليم يحقق متوسط عائد ثابت يبلغ 10% إلا أنه في ظل إحراز تقدم تكنولوجي، تكون العائدات أعلى بكثير. والإخفاق في التوسع في إتاحة الحصول على التعليم قد يمثل فرصة هائلة ضائعة لتعزيز النمو الشامل للجميع.
ومن ثم، ينبغي للسلطات المعنية النظر إلى المستقبل حين يتعلق الأمر بالتعليم. وفي ظل التطورات الكبرى في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الأخرى الآخذة في الظهور، من المحتمل أن يكون التوسع في إتاحة الحصول على التعليم مفيدا للغاية، ربما أكثر مما كان عليه في الماضي. وكذلك يعني هذا الأمر أنه ينبغي لصناع السياسات العمل بقوة على تعزيز السياسات التي تشجع اعتماد هذه التكنولوجيا. وثمة اعتماد متبادل وثيق بين التعليم والأبعاد الأخرى لأي اقتصاد. ومن غير المرجح أن يكون التعليم وحده مفيدا للغاية ما لم يرتبط بسياسات تكميلية أخرى.