Author

أهمية الأمن الغذائي الوطني

|

تواصل وزارة البيئة والمياه والزراعة خطواتها الثابتة وتسخر كامل طاقاتها وجميع جهودها لتحقيق الأمن الغذائي الوطني؛ لكونه يشكل قمة تحدياتنا الملحة وأهم أولوياتنا المستهدفة. لذا أنيط بالوزارة 16 هدفا من أصل 187 هدفا استراتيجيا في رؤية المملكة وبرنامج تحولها الوطني، متفوقة بهذا العدد على كل الجهات الرسمية الأخرى، لما للأمن الغذائي من أهمية قصوى وصلة مباشرة بصحة أبناء الوطن ومستقبل أجيالنا. وبالتالي، من واجبنا الوقوف إلى جانب الوزارة ودعم جهودها الخيرة ومساندة خطواتها الرامية إلى تحقيق أمننا الغذائي.
وكي نتصور مدى المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتق الوزارة لتوفير الأمن الغذائي، علينا أن نطلع على برنامج الأغذية العالمي، الصادر عن الأمم المتحدة، لنتأكد أن الدول الخليجية تستورد 83 في المائة من احتياجاتها الغذائية، لتحتل المرتبة الـ18 بين دول العالم في قيمة هذه الواردات، وتتربع قائمة أكبر القوى الشرائية للمواد الغذائية الأساسية في العالم بالنسبة لعدد السكان. وأصبحت الفجوة الغذائية الخليجية تساوي 100 في المائة في القمح و92 في المائة في الأرز و92 في المائة في الذرة و86 في المائة في الشعير والأعلاف و34 في المائة في اللحوم والألبان.
وجاءت هذه الفجوة نتيجة اختلال التوازن بين زيادة السكان وانحسار الإنتاج، إضافة إلى اتساع رقعة التصحر وجفاف الطبيعة وندرة المياه؛ ما أدى جميعها إلى إرهاق كاهل ميزانيات الدول الخليجية بسبب دعم الأسعار لمواجهة آفة التضخم المستورد.
من هذا المنطلق أصبح إنشاء المخزون الغذائي الاستراتيجي مطلبا رئيسا في الدول الخليجية، يفوق أهمية الاستثمار الزراعي الخارجي، الذي يخضع لاتفاقات دولية بالغة التعقيد. فالنظام التجاري العالمي لا يسمح للمستثمر الخليجي باستيراد السلع الزراعية التي استثمر في إنتاجها خارجيا لأن المادة (11 - 2 - أ) من اتفاقية "الجات" تمنح الدول كافة : "الحق في فرض الحظر على صادراتها الزراعية بقصد منع أو تخفيف وطأة أوجه النقص الحرج أو الحاد في المواد الغذائية أو المنتجات الأخرى التي تعد ضرورية لمواطنيها ولا غنى عنها".
إضافة إلى ذلك، فإن المستثمرين في الزراعة الخارجية ملتزمون لدى تصدير منتجاتهم بتطبيق مبدأ حق الدولة الأولى بالرعاية دون التمييز في أسعار بيعها على غيرها. لذا لا يحق للمستثمر الخليجي طبقا للمادة (1) من اتفاقية «الجات»، تخفيض هذه الأسعار أو رفعها لدى تصديرها لبلاده، حتى إذا كانت هذه الاستثمارات الخارجية ومنتجاتها مملوكة لهذا المستثمر الخليجي بنسبة 100 في المائة.
من خلال هذه النصوص القانونية، فرضت روسيا عام 2007 الحظر على تصدير القمح بسبب الحرائق التي دهمت مزارعها، وفرض كل من الهند وتايلاند والصين ومصر الحظر على تصدير الأرز عام 2008 بسبب انخفاض مستوى مخزونها، وفرضت أستراليا الحظر على تصدير الشعير عام 2014 بسبب موجة الجفاف التي أصابت مزارعها، كما فرضت الفلبين وإندونيسيا وماليزيا عام 2010 الحظر على تصدير زيوت النخيل لإجبار المزارعين لديها على تخفيض أسعار هذه السلع في أسواقها المحلية.
لذا فإن، الاستثمار الزراعي الخارجي يحتوي على عدة معوقات محفوفة بالمخاطر، ليصبح عبئا استثماريا مرهقا قد لا يستفاد منه في ظل أحكام النظام التجاري العالمي، وبالتالي فإن هذا الاستثمار لا يفي بأهداف الأمن الغذائي المنشود. بينما في المقابل يتمتع المخزون الغذائي الاستراتيجي في المملكة بمقومات مميزة، مثل توافر الموانئ المؤهلة لاستقبال الناقلات وبناء الصوامع، والقوة الشرائية لإبرام اتفاقيات الشراء طويلة الأجل مع مختلف المنتجين والموزعين في جميع بقاع العالم خلال المواسم التي تتمتع بالأسعار المنخفضة، وجهاز إداري لوجستي يستطيع التحكم في المخزون وتوزيعه في الأسواق لتفادي تقلبات الأسعار والنقص في وفرة المنتج. كما أن بإمكان القائمين على هذا المخزون عقد تحالفات شراء استراتيجية مع شركات الأغذية العالمية للاستفادة من تدوير محتويات المخزون بوتيرة تضمن توافر السلع الغذائية الرئيسة على مدار العام ولمدة تراوح بين خمسة وعشرة أعوام في المتوسط.
ونظرا لأن مستقبل الطلب العالمي على السلع الغذائية الأساسية سيفوق المعروض منها، فعلينا الاقتناع بأن أسعار الغذاء العالمي لن تعود مستقبلا إلى سابق عهدها نتيجة زيادة تكاليف الانتاج الزراعي وتدهور الأحوال المناخية وتنامي الأمراض الزراعية. لذا يجب علينا البدء فورا ببناء المخزون الغذائي الاستراتيجي من خلال الخطوات التنفيذية التالية:
أولا: تأسيس شركة مساهمة أو عدة شركات مساهمة عملاقة بالمشاركة بين القطاعين الحكومي والخاص، تنحصر مهامها في تأمين وإدارة المخزون وتوقيع عقود الشراء طويلة الأجل من الشركات العالمية العريقة.
ثانيا: اعتماد مبدأي "الشراء الآجل" و"الشراء بحصص الكوتا" لدى توقيع العقود مع الشركات العالمية؛ ما يمنح شركات المخزون الاستراتيجي السعودية القدرة على دفع فواتير المواد الغذائية لدى شرائها فقط. وإذا توافر الفائض من حصص "الكوتا" المحجوزة لمصلحة المخزون السعودي تقوم الشركة السعودية المساهمة ببيع حصتها للدول الأخرى بأسعار السوق العالمية لتحقق الأرباح من ارتفاع الأسعار المستمر.
ثالثا: توقيع عقود طويلة الأجل لشراء السلع الغذائية الأساسية من الدول الزراعية التي تمتلك فائضا كبيرا في الإنتاج، مثل دول الاتحاد الأوروبي التي تمتلك 43 في المائة من الإنتاج العالمي، والدول الزراعية المعروفة باسم "مجموعة كيرنز"، وعددها 19 دولة، وتمتلك 26 في المائة من المحصول الزراعي العالمي. وتقوم الشركة السعودية بالتعاون مع هذه الدول لضمان تنفيذ هذه العقود من خلال اتفاقات تجارية محكومة بقواعد النظام التجاري العالمي ومضمونة بالتأمين الدولي من خلال المصارف التمويلية، مثل البنك الإسلامي للتنمية والصندوق السعودي للتنمية.
رابعا: التعاقد مع شركات النقل البحري الوطنية لتصميم وبناء السفن المختصة بنقل السلع الزراعية، لتكون الجسر البحري الآمن بين الدول المنتجة والمملكة. وتسهم هذه الخطوة في تعزيز قدرة المملكة على التحكم في أسعار الشحن والتأمين وضمان الحصول على السلع الغذائىة المطلوبة بالمواصفات القياسية.
أخيرا: الإسراع في تخصيص المؤسسة العامة لصوامع الغلال ودمجها مع الشركة السعودية المساهمة والمختصة بتخزين وتنقية وتعليب وتغليف ونقل وتوزيع المواد السائبة إلى مختلف المدن والقرى داخل المملكة، حيث يتم توفير هذه السلع الأساسية على مدار العام في جميع المناطق والقضاء على الاحتكار.
ولأن تحقيق الأمن الغذائي يقع على رأس أولويات وزارة البيئة والمياه والزراعة، ويشكل أهم تحدياتها الملحة، فإنه يجب علينا مساندة الوزارة في سعيها إلى بناء المخزون الغذائي الاستراتيجي لتأمين وتوفير السلع الغذائية الأساسية بالأسعار المعتدلة. وهذا سيوفر للمملكة الأمن المطلوب ضد تضخم الأسعار العالمية والتحصين المرغوب ضد الاحتكار والابتزاز من الدول المصدرة للغذاء والتجار المستوردين للسلع الرئيسة.

إنشرها