Author

الإدارة في زمن العزلة

|

 كثيرة هي الأحاديث التي تصف كيف يتغير العالم اليوم، ففي أسابيع قليلة بتنا نعرف دون أدنى شك أننا نمر بمنعطف تاريخي غير تقليدي. لكن عندما تكثر الأحاديث نفقد التركيز. لذا، وعلى الرغم من أهمية ترويج مكتسبات العمل عن بعد، فإنك لن تجد من يقدم النصيحة والشرح الوافي حول كيفية "إدارة" العمل عن بعد، وليس القيام به فقط، خصوصا عندما نتحدث عن نماذج الأعمال المحلية بتفاصيلها الاجتماعية والتنظيمية. من البديهي القول: إن استخدام عدد من الأفراد لآخر الحلول التقنية للتواصل عن بعد لا يعني بأي حال من الأحوال إجادة العمل عن بعد. ومن الأكيد كذلك أن البحث عن تحقيق الهدف يقودنا إلى أسلوب إدارة العملية بكاملها، وهذا يعني المهارات الإدارية المطلوبة لإدارة مختلف الإمكانات المتاحة في هذه الحالة الاستثنائية من العزلة الإجبارية.

أولا، في هذه الظروف الاستثنائية لا بد من البدء بالثقة، في الظروف العادية تعد الثقة التي يصنعها المديرون والقادة مصدر الاهتمام والاستمرارية في أداء العمل على الوجه المطلوب، وفي حالة العزلة والابتعاد الجسدي، تتعاظم أهمية الثقة. بناء الثقة بين المدير ومرؤوسيه لا يحدث بطريق المصادفة، فالحضور والوجود والرسائل الإيجابية، والعمل كمصدر اطمئنان وليس مصدر تشويش وقلق، من بديهيات وأسس هذا البناء.
ثانيا، من الضروري العمل على إعادة ترتيب الأولويات وتشذيب الأعمال لتكون قابلة للإدارة عن بعد، وهذه مهمة إجرائية كبيرة تتطلب مهارات القائد أو الفريق القيادي الملم بتفاصيل العمل ودورة حياته من البداية إلى النهاية، فضلا عن القيمة المستهدفة وما يجب الحفاظ عليه وما يمكن الاستغناء عنه من مخرجات.
ثالثا، إذا وجدت الثقة، وتم تحديد الأدوار والمهام الجديدة نسبيا انتقلنا إلى إدارة الأداء وتحفيزه وضبطه. وعمليا، إدارة الأداء عن بعد مسألة مختلفة تماما لا يساعد فيها الزمن ولا النماذج الموجودة، إذ لا توجد فترات طويلة يمكن انتظارها، والوسائط التي يقدم بها العمل ويقاس قد تتغير. لذا، ينصح هنا باستخدام نماذج إدارة الأداء العصرية التي تنتهج استخدام القياس المباشر واللحظي الذي يجب فيه استغلال البيانات والتقارير بشكل ذكي ومستمر، وهذا يعني أن تصبح التقارير بدورات زمنية أقصر قد تصل إلى المستوى اليومي مع إعادة تصميم مؤشرات الأداء أو تعديلها لتوائم مهام الأداء المعدلة.
وبعد ذلك يأتي الجزء الأهم - النقطة الرابعة - وهو استيعاب كل الأطراف قوانين اللعبة الجديدة، وهذا يعني التثقيف والتدريب المستمرين والمركزين، فالقيام بالعمل من المنزل لا يعني الفسحة، لكن لا يعني مستوى الانضباط المعتاد نفسه. من الخطأ الافتراض أن الناس يجيدون القيام بذلك ما داموا على هواهم أو يعملون بالكيفية التي يريدون، بالعكس، هم اليوم بحاجة إلى الجديد من المهارات التنظيمية والأدوات الملائمة التي يجب أن تستثمر فيها المنشآت تدريبا وتدشينا، بما يتوافق مع خطتها للعمل عن بعد.
خامسا، في فترة العزلة، يجيد المدير الحصيف الموازنة بين المخاطر والأهداف، خصوصا أن هناك مخاطر جديدة أو مرتفعة استثنائية في هذا الوقت، مثل الأمن السيبراني، وتحديات التوثيق والأرشفة، وإدارة الوقت الضائع، والتعامل مع التفاعل الذاتي الجديد "الاستقلالية والرقابة والأداء الذاتي" لدى الموظفين. وهنا تحديدا موطن التوازن، فزيادة الضوابط بلا اتزان تعيق العمل بينما إهمالها يضحي بكل المكتسبات.
وأخيرا، لابد أن يعاد تقويم العملية الإدارية بكامل جوانبها "تخطيطا وتنظيما وتوجيها وضبطا" لتوائم الوضع الجديد. ولأن المسألة طارئة ومفاجئة، فمهارات التعلم التنظيمي والتعلم الفردي السريع ستكون هي الفاصل، فمن يحصد المعرفة الجديدة المرتبطة بأسلوب إدارة العمل ويطبقها على وجه السرعة، سيملك المرونة الكافية للانتقال من مستوى إنتاجي إلى آخر أفضل منه.
التقنية وأدوات التواصل عن بعد من مكتسبات العصر وضروراته التي يجب أن تستغل كما يجب، لكنها لا تساوي شيئا دون تغيير أسلوب التفكير وإطار الممارسة. لن تخرجنا الاجتماعات المرئية الحية من السابق التقليدي ولن تنقذنا من مغبة استنفار العزلة الاضطرارية، إلا إذا تمكن المدير والقائد والمسؤول من تمكين هذه التغيرات، وربطها بسياق العمل وإمكاناته وتحدياته. أختم القول: إن أكثر المديرين المنكشفين اليوم هم المتسلطون الذين كانوا يحكمون سيطرتهم بالأساليب البائدة، لا ثقة ولا تحفيز ولا عطاء. ولمثل هؤلاء ستكون الإدارة عن بعد إما تغييرا يصنع الثقة والتحفيز المتبادل والتواصل الفعال في درب النتائج، وإما مزيدا من الانقطاع والسقوط في العزلة.

إنشرها