تنمية القطاعات .. و«الإقلاع» عن النفط
قال الأمير محمد بن سلمان في أول مقابلة تلفزيونية له أجراها تركي الدخيل الصحافي والإعلامي "الملك عبد العزيز والرجال الذين عملوا معه في كل أنحاء المملكة، لما أسسوا دولة ما كان فيها نفط. أسسوها دون نفط وأداروا هذه الدولة دون نفط وعاشوا في هذه الدولة دون نفط. وتحدوا الاستعمار البريطاني ولم تدخل بريطانيا ولا شبر إلى السعودية دون نفط برجال موجودين. له علاقة أنه أصبح اليوم كأنه دستورنا، الكتاب والسنة ثم البترول. هذه خطيرة جدا. نحن أصبحت لدينا حالة إدمان نفطية في السعودية من قبل الجميع، وهذه خطيرة، وهذه التي عطلت تنمية قطاعات كثيرة جدا في السنوات الماضية".
فقرة واحدة من عدة جمل ذات معان عميقة وتشخص حالة إدمان جاءت بسبب مورد طبيعي أتي بالمال السهل فجعلنا أمام حالة خطيرة وهي أن البلد مرهونة لسلعة واحدة وهي النفط، وهي سلعة كما أنها أتت بالمال الوفير إلا أنها عطلت التنمية في القطاعات الاقتصادية الأخرى في السنوات الماضية حتى بتنا لا نرى سبيلا للتنمية الاقتصادية والعيش الكريم سوى النفط، وعزز ذلك ما نسمعه من الخارج بأن الدول النفطية هي الدول الغنية، والدول العربية غير النفطية فقيرة في مجملها وتعاني مشاكل اقتصادية.
الحل الذي تطرحه "رؤية 2030" يقول بالتوجه لتنمية القطاعات الاقتصادية للإقلاع عن حالة الإدمان على النفط للتحول نحو الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي المستدام، والبرامج التنفيذية الاستراتيجية تعمل متعاضدة على تحقيق ذلك، وهذا الحل هو ما نادى به كل مسؤول أو مواطن راصد للحالة الاقتصادية السعودية عبر العقود الماضية، بل أشارت إليه كل خطط التنمية دون برامج تنفيذية استراتيجية جادة، حيث لا خطط فاعلة وهيكلة اقتصادية مناسبة وموارد مخصصة وطاقات موجهة لتحقيق ذلك فالأمر لا يعدو مرحلة الأماني، ولذلك لم يتحقق التنوع المنشود في مصادر الدخل والتحول للاقتصاد الحقيقي المستدام.
اطلعت على تغريدة للدكتور أحمد السالم وهو متخصص في الهندسة المالية والاقتصاد قال فيها "لتحريك الركود، يحتاج الاقتصاد إلى ضخ أموال حكومية إضافية في الداخل، لتطوير سوق العمل ورفع دخول الناس، إضافة إلى إيجاد حلول تمويل الإسكان"، واطلعت على رد عليه يقول "اقتصادنا لم ينمُ نموا حقيقيا، بل كان نموا نقديا، وبالتالي لا نعاني ركودا، وما يحدث تراجع في الأسعار نتيجة تراجع الواردات"، وأوضح صاحب الرد وهو عبد الله بن حبتر وهو باحث ومحلل اقتصادي في تغريدات توضيحية أن "النمو الاقتصادي الحقيقي يؤدي لزيادة مستوى التوظيف، الذي بدوره يؤدي لزيادة الطلب على السلع والخدمات لكن النمو الاقتصادي لدينا تبعته زيادة في البطالة".
ويضيف "إن ما حدث أوجد جزءا يسيرا من الوظائف في القطاع الخاص غير المنتج، وإنه إذا تمعنا في النمو الاقتصادي لدينا وجدنا أن إنتاج النفط في السابق يقترب جدا من إنتاجه الحالي إلا أن الانخفاض كان بسبب انخفاض الأسعار، ما يعني أن النمو لدينا نمو نقدي وليس نموا حقيقيا، وبمجرد انخفاض أسعار النفط انخفض الدخل. وهنا يؤكد أن الإنفاق يجب أن يتوجه إلى القطاعات المنتجة فعلا والمولدة للوظائف التي تجلب النقد للاقتصاد سواء من الداخل أو الخارج".
هذا النقاش وما قاله الأمير محمد بن سلمان في لقائه الأول مع تركي الدخيل ثم لقائه الثاني مع داود الشريان يؤكد أننا نسير في الاتجاه الصحيح نحو تنمية القطاعات الاقتصادية المنتجة لتحقيق الاستدامة والإقلاع عن النفط الذي أدمنا عليه، على أن يكون النفط هو الراحلة القوية التي يمكن أن نستند إليها لتنمية القطاعات الاقتصادية والتحول إلى اقتصاديات السوق بدل الاقتصاد الرعوي الذي أرخى مواردنا البشرية فكريا وجسديا رغم وجود الحاجة والرغبة والطموح.
رغم أننا نسير في الاتجاه الصحيح الذي نادى به الجميع منذ عقود، ورغم أن مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية بقيادة الأمير محمد بن سلمان أخذ على عاتقه العمل في هذا الاتجاه وفق "رؤية 2030"، ورغم الحراك الكبير الذي تشهده أجهزة الدولة وهيئاتها بشكل لم تشهده من قبل، ورغم تشكل روح جديدة لدى مواردنا البشرية، حيث الإنتاجية هي المعيار وتحقيق الأداء العالي والإنجاز المؤثر هو الحكم وأداة التقييم، رغم كل ذلك إلا أن هناك مقاومة لهذا التوجه، وهناك لغط اجتماعي يصل للتذمر أحيانا، وكل ذلك متوقع فمقاومة التغيير أمر طبيعي وسمة من سمات البشر، ولكن علينا تخفيف حدة المقاومة وقوتها، وحشد الجهود والطاقات للتعاضد لتنفيذ البرامج الاستراتيجية ومنها البرامج الاثنا عشر التي أعلن عنها دون فاقد كبير من الوقت والجهد والمال.
الجهود الإعلامية والمتواصلة والمؤتمرات والمنتديات والدورات التدريبية وورش العمل والمتابعة الحثيثة قائمة على قدم وساق، وهذا شيء مبشر وينبئ بالقدرة على الاستثمار الأمثل للطاقات والجهود والأوقات والأموال لتحقيق "الرؤية" وبرامجها وأهدافها بأقل فاقد ممكن، إلا أننا في حاجة إلى مزيد من برامج التوعية لكثير من النخب أولا خصوصا من صناع الرأي من المؤثرين والمشاهير الذين بات كثير منهم يحركون الرأي العام عاطفيا ويستثمرون المزاج العام حيال أي قضية لبناء مزيد من الجماهيرية لمصلحتهم وإن خالف ذلك المصلحة العامة، ومع الأسف الشديد كثير منهم لا يكلف نفسه عناء البحث والتواصل مع الجهات المعنية لمعرفة حقيقة ما يتعرض له من مواضيع أو قضايا أو مشاكل إذ يعتمد على الفهم السطحي الانطباعي ليدلي بدلوه رغم أنه يؤثر في صناعة رأي مئات الآلاف من المتابعين له والمتأثرين بآرائه.
ختاما، كلنا دون تردد نقف خلف قيادتنا لتحقيق ما نصبو إليه بالإقلاع عن النفط وتنمية القطاعات الاقتصادية المنتجة للسلع والخدمات المولدة للفرص الوظيفية والمستقطبة للنقد الداخلي والخارجي، وما نريده مزيد من التوعية لزيادة الداعمين وتقليل المقاومين.