الثقافة عند جذور النمو
إن كتاب جويل موكير المعنون "ثقافة النمو": أصول الاقتصاد المعاصر، يعطي الثقافة مكانة محورية في النمو الاقتصادي السريع والتطور الصناعي الناجمين عن الثورة الصناعية الأولى، التي لا تزال جارية ومتطورة ذاتيا في أوروبا الغربية منذ ذلك الحين.
ويؤكد الكاتب أن نوعا معينا من الثقافة هو السبب في أن التغير الحافز للنمو حدث في أوروبا وليس في الصين مثلا. وموضوع هذا التحليل المثير للفكر هو ما معنى هذه الثقافة، وما الذي جعلها مختلفة في أوروبا.
ويشير موكير إلى أن حركة التنوير والثورة الصناعية لم تكونا تطورات خارجية، ولكن تسلسلا في السلوكيات التي يجمعها تحت كلمة "الثقافة" في أوروبا الغربية. وقد حدث ذلك على مدار ما يقرب من قرنين بين عامي 1500 و1700، وهي فترة أسفرت عن تغيرات في المعتقدات حول قدرة الناس على استخدام العلوم للتحكم في مصيرهم، خاصة العالم الطبيعي.
وقد شجعت حركة التنوير التي انطلقت في أواخر القرن الـ 17 واستمرت حتى القرن الـ 18 البحث عن "المعرفة المفيدة"، أي العلوم والتكنولوجيا، التي أسفرت عن التحكم الدائم والمستمر في قوى الطبيعة.
واسترعى الانتباه إلى هذه العملية شخصيتان بارزتان هما فرانسيس باكون وإسحاق نيوتن، اللذان غيرا طريقة التفكير في أوروبا الغربية وبعد ذلك في العالم. فكتب باكون أن "الهدف الحقيقي والمشروع للعلوم هو تزويد الحياة البشرية باكتشافات وموارد جديدة".
وكان الأثر الذي تركه هو ومن تبعه في حركة التنوير أساسيا في الوصول إلى قناعة أن "البحث الطبيعي" من خلال التجربة أساسي للنمو الاقتصادي ورفاهية الإنسان. وكانت مساهمة نيوتن هي إثبات أنه يمكن تحديد "قواعد" ـــ العمليات الحسابية المنتظمة ـــ الطبيعية، وبالتالي فك ألغاز العالم الطبيعي.
وقد غير كل من باكون ونيوتن طريقة التفكير في زمنهما، لأن المنافسة في سوق الأفكار سمحت "بنشر أفكارهما وتبادلها وبالتالي التشكيك فيها وتصحيحها وتكميلها" كما يقول موكير.
ولكن كيف تحققت هذه التغيرات الثقافية وانتشرت في فترة التغير الأساسي في أوروبا؟ وكيف تحولت حركة التنوير إلى ثورة صناعية، أصبحت بدورها نقطة البداية للنمو القابل للاستمرار؟ ويرسم موكير خلفية للتطور في مجال الملاحة وبناء السفن الذي فتح أوروبا أمام منتجات وأفكار جديدة
"عولمة مبكرة"، والصحافة المطبوعة التي خفضت تكاليف الاتصالات وأدت إلى زيادة منافع الإلمام بالقراءة والكتابة.
وفتحت هذه التطورات العقول أمام أفكار جديدة وطرق جديدة للتفكير في أماكن أخرى، وقللت الارتباط بالأفكار القديمة.
كما ساعد هذه التغيرات عدم وجود سلطة مركزية واحدة في أوروبا، وحرية الفرد، وإنفاذ حقوق الملكية والمنافسة في السوق على السلع المادية والأفكار. ومن بين أمور أخرى، أدت الأفكار الجديدة إلى تطورات في العلوم والتكنولوجيا التي يمكن أن نطلق عليها اليوم الثورة الصناعية. وأدى ذلك كله إلى نمو اقتصادي قابل للاستمرار.
ويبين موكير بعد ذلك أنه على الرغم من أن من المفيد بحث السبب وراء حدوث شيء ما، فمن المهم أيضا تحليل سبب عدم حدوثه. ويستخدم الصين كمثال مضاد لإثبات تطور ثقافة النمو بسرعة في أوروبا. وعلى الرغم من أن الصين كانت لا تقل في الماضي عن أوروبا من حيث التقدم التكنولوجي، إن لم تكن أكثر تقدما ــــ وبالتأكيد أكثر إلماما بالقراءة والكتابة فلم تنتج شيئا مثل الثورة الصناعية. ويرجع موكير بطء التقدم في الصين إلى عوامل مثل تبجيل الأدبيات الصينية الكلاسيكية، والحكومة المركزية التي ثبطت المنافسة بين المناطق، واختيار الموظفين الإداريين للمناصب الحكومية المرموقة، استنادا إلى المعرفة بالأدبيات الصينية وليس العلوم والتكنولوجيا، وعدم الأهمية النسبية للمنافسة مقارنة بأوروبا. ووفرت هذه
العوامل حوافز عززت النجاح في مواطن أخرى من الثقافة الصينية، لكنها لم تحفز الأفكار والإجراءات المرتبطة بثورة صناعية. ويختتم موكير قائلا "يبدو من الخطأ تعريف تجربة الصين بأنها "فشل". والمثير، وبالفعل الفريد، هو ما حدث في أوروبا في القرن 18".
وهذا الكتاب أحدث مثال على قدرة موكير على تفسير المسائل المعقدة، موضحا فكرته العامة بمجموعة هائلة من التفاصيل الجذابة. وهو يكتب بوضوح ـــ وكتابته ممتعة للقارئ العام وكذلك للمتخصصين في التاريخ الاقتصادي. وعلى كل من يهتم بالطريقة التي وصل بها المجتمع الغربي إلى مكانته اليوم وما يعني ذلك بالنسبة إلى انتشار التكنولوجيا في الاقتصاد العالمي في المستقبل، أن يقرأ كتاب "ثقافة النمو".