اقتصاديات «الأشباح»
قد يبدو عنوان موضوعنا لجمعتنا المباركة هذه غريبا بعض الشيء. القارئ من حقه أن يتساءل قائلا: "حتى الأشباح صار لها دور في المال والاقتصاد".
اليوم لنا "اقتصاديات" ــــ أي حقل معرفي قائم بذاته ــــ في شتى البضائع والأشياء التي قد لا تخطر بالبال.
في هذا العمود أثرنا موضوع "اقتصاديات روبوتية" ما أثار دهشة بعض القراء. ولكن قد تتطور الدهشة إلى شيء من الصدمة إن قلنا إننا قد نشهد قريبا دراسات تعنى باقتصاديات "الأشباح".
وِلم لا؟ أليس لدينا اليوم دراسات وأبحاث علمية رصينة حول اقتصاديات "القمامة" مثلا؟ من كان يتصور أن "القمامة" سيصبح لها شأن في التجارة الدولية؟
ما يثير الذهول أيضا أن ما قد نراه غريبا أو نادرا أو شاذا اليوم قد يصبح أمرا مألوفا غدا ويتحول عزوفنا عنه إلى قرب وود.
كنت أدرس مادة اللغة الإنجليزية لطلبة كلية الهندسة في جامعة سويدية. والجامعة هذه كانت تتباهى بكلية الهندسة لديها ، حيث إن طلبتها يحصلون كل سنة على عشرات براءات الاختراع.
ليس هذا فقط، بل إنهم يؤسسون عشرات الشركات الجديدة كل سنة.
وقبل أن أبدأ في التدريس اجتمع بي العميد مقدما نصائحه لطبيعة التدريس وأهمية اللغة الإنجليزية لطلبته وأي مدار عليهم أن يتقنوا اللغة فيه كي يكتبوا ويتكلموا الإنجليزية بطلاقة ضمن فضائه.
قال العميد إن كليته يهمها أن يتمكن الطلبة من الكتابة والقراءة والتحدث باللغة الإنجليزية التي يحتاج إليها رجال الأعمال وأصحاب الشركات ومتعهدو المشاريع في تواصلهم مع العالم الخارجي.
قلت له لا أظن أن مكتبة تدريس اللغة الإنجليزية تملك كتابا منهجيا بهذا الخصوص.
أجاب: ومتى كان الأستاذ الجامعي القدير أسير كتاب منهجي؟
استوعبت الرسالة التي كان مفادها أنه علي أنا كأستاذ جامعي أن أعد المنهج والكتاب المنهجي حسب توجيهاته.
لن أدخل في تفاصيل العمل المرهق والساعات الطويلة التي تطلبها الإعداد لمقرر ليس فيه كتاب منهجي.
أكثر نشاط يتواصل فيه رائدو الأعمال والشركات هو المعارض التجارية. استحوذ هذا النشاط على أسبوعين من المقرر الذي لا تتجاوز مدته في السويد ستة أسابيع من التدريس المكثف.
وقسمت الطلبة إلى مجموعات، وطلبت من كل واحدة منها أن تؤسس شركة وموقعا لها في الإنترنت مع كراريس وكتيبات ونشرات باللغة الإنجليزية.
وكانت مدة المعرض ثلاثة أيام. وأعددت قائمة بالوفود التي ستزور المعرض، والتي ستثير أسئلة كثيرة عن المعروضات وكل حديث في هذه الأيام الثلاثة، وكل كتابة ومراسلة يجب أن تتم باللغة الإنجليزية.
كان الطلبة أحرارا في إنشاء أي شركة وفي أي اختصاص يريدونه.
أسس الطلبة 32 شركة. وكان لكل شركة جناحها الخاص في المعرض، في القاعة الرئيسة للجامعة. والأجنحة كلها كانت تحمل كتابات باللغة الإنجليزية. وكانت هناك محطة إذاعية داخلية تبث أيضا بالإنجليزية.
هذا ليس بيت القصيد لموضوعنا اليوم. بيت القصيد أن 25 شركة من مجموع الشركات الـ 32 التي أسسها الطلبة كانت شركات صناعية وتكنولوجية غايتها إنتاج أجهزة متطورة للتعامل مع الأشباح.
وما أدهشني أن الطلبة كانوا في اندفاع وحماس كبيرين إلى درجة بدا لي أنهم حقا يؤمنون بالأشباح وأن للأشباح دورا كبيرا في حياة المجتمع السويدي الذي يعد الأكثر رقيا وتطورا وعلما ومدنية في العالم.
ومنذ حينه وأنا أكتشف بين الفينة والأخرى مكانة الأشباح في هذا المجتمع.
لديهم أماكن تسكنها أشباح حميدة. يتقاطرون على هذه الأمكنة في العطل زرافات كي يتحدثوا مع الأشباح ويستأنسوا لها.
وقصر ملكهم مسكون بالأشباح الحميدة البريئة التي تتحدث تقريبا كل يوم مع ملكتهم سيلفيا، وهذا ما اعترفت به في فيلم وثائقي. والملكة هذه محبوبة الجماهير، يصدقها الناس وكانوا لها أكثر تصديقا عندما أشارت إلى محدثيها وندمائها الأشباح في قصرها الفاره، وكم هي متأثرة برقتهم وكلامهم الساحر ومحاوراتهم لها في شتى أمور الدنيا والحياة.
هناك أماكن مسكونة بالأشباح الشريرة. هذه تتطلب زيارتها تروسا ودروعا وأجهزة خاصة.
وهناك شركات تنتج معدات هكذا ومراكز استشارة تقدم النصيحة للزائرين.
واليوم أفهم شغف طلبتي بتأسيس شركات تعنى بشؤون الأشباح وسأفهم إن أدخلت الجامعات ضمن مناهجها حقلا معرفيا جديدا اسمه اقتصاديات "الأشباح".