وأتيتك بنبأ «كاذب»

نمر اليوم في عصر صار من الصعوبة بمكان فيه التمييز بين الصدق والكذب والأصيل والمزور.
وهنا أقصد الإعلام بشتى صنوفه وأجناسه. والإعلام كمصطلح وفضاء واسع سعة الدنيا اليوم.
الدنيا تدور على وقع الإعلام. لقد حولت التكنولوجيا الرقمية الإعلام إلى ما يشبه عضوا من أعضاء جسمنا.
أغلب الأجهزة الرقمية الدقيقة تتمحور وظيفتها في التخاطب ونقل المعلومة. هذه الأجهزة تمكننا من نقل المعرفة والمعلومة بسهولة ويسر.
اليوم بإمكان أي فرد يملك جهازا رقميا ذكيا الانخراط تقريبا في كل المهام الصحافية في غياب الرقيب وقواعد السلوك المهني التي ترافق الصحافة الرصينة.
نحن نمر بثورة أغلب تفاصيلها كانت محض خيال علمي قبل عقدين أو ثلاثة.
وصار من العسير اليوم التمييز بين المعلومة التي في الإمكان التحقق منها والمعلومة السائبة التي تفتقر إلى المصداقية.
انظر مثلا الخبر الكاذب الذي انتشر في الإعلام عن طريق أغلبية وسائله، حول أن الشرطة الكندية تخفي اسم مسلم كان شريكا لمقترف الجريمة الإرهابية بحق المصلين في جامع.
وأتذكر هنا كيف انتشر خبر غير موثق حول العلاقة بين بعض أنواع اللقاحات والاضطرابات النفسية لدى الأطفال. هذا الخبر الذي أسنده أصحابه إلى العلماء والباحثين أحدث ما يشبه الكارثة حيث عزف كثير من الآباء والأمهات عن تلقيح أطفالهم الأمر الذي أدى إلى إصابتهم بأمراض خطيرة منها شلل الأطفال.
ولا أريد أن أسترسل بذكر الأخبار الكاذبة التي كان لها وقع كبير واستسلم لها الإعلام وبثها وكأنها معلومات موثقة ومثبتة لأنها أكثر من أن تحصى.
ما مدى خطورة انتشار الأخبار الكاذبة على وسائل التواصل والإعلام؟
الأخبار الكاذبة ــــ مثل الشائعات والإيماءات ـــ بدأت تؤثر تأثيرا بالغا في تكوين الرأي العام ومزاج الناس ومواقفهم.
في بريطانيا مثلا كانت ولا تزال الصحف الكبيرة تتباهى إن عبرت مبيعاتها 200 ألف نسخة.
اليوم ربما شخص عادي لا علاقة له بالصحافة له مئات الآلاف من المتابعين والقراء، يتقاطرون إلى قراءة أفكاره وخطابه ويصدقون ما يكتب دون بذل أي جهد للتحقق إن كان ما يأتي به صحيحا أم لا.
وهذا الشخص من خلال الكوة الصغيرة التي يمتلكها ضمن شبكة عنكبوتية أخطبوطية بإمكانه التواصل مع الذين يسايرون ميوله ويصبح عدد متابعيه بالملايين.
لقد بدأ الخط الذي كان يفصل الإعلام التقليدي الرصين من الإعلام الشعبي والاجتماعي في التآكل.
المدونة التي تعكس وجهة نظر وميول توجه فكري أو سياسي محدد هي اليوم أكثر تأثيرا في بيئتها.
وضع الإعلام في خضم الثورة الرقمية والتكنولوجية التي نعيشها يتطابق مع المثل العربي: "حشر مع الناس عيد". الناس تتقاطر وتطير ضمن أسرابها، والسرب له لونه وصوته، والناس لا تحب اللون المختلف والصوت المختلف.
فإذا كان السرب مثلا معاديا للإسلام، يطير مع الخبر الكاذب الذي يقول إن الشرطة الكندية أخفت هوية مسلم كان وراء قتل المصلين في جامع.
ومع السرب والحشر مع الناس نفقد المقدرة على إشغال العقل وإثارة الأسئلة. نحن نبحث عن جواب جاهز لأسئلتنا يوائم ميولنا.
والثورة الرقمية التي كان الإعلام من أكثر النشاطات البشرية استفادة منها تمكننا من تقديم خطاب ترافقه صور وفيديو وترتيب يشبه مثلا ما لدى جريدة "نيويورك تايمز" الشهيرة.
ولا حاجة إلى أن يكون المحتوى والمتن موثقا ورصينا. الناس تنظر إلى السرب إن كان من جنسها طارت معه. وموقفنا من المعلومة لا يختلف كثيرا عن الطيران مع السرب. إن كانت المعلومة موائمة لميولي ومواقفي أصدقها وأحاول نشرها على أوسع نطاق. لم تعد الناس تلجأ إلى التأني في قراءة المعلومة وعدم الوثوق بها دون اختبار وتمحيص. مثلا، لا نسأل إن كان ناقل المعلومة يعتد به وموثوقا، طالما هو واحد منا فنحن معه، ولا نحاول معرفة إن كان الآخر المختلف عنا يصدقها. ولا نكترث إن كانت هناك براهين وأدلة تدعم ما تأتي المعلومة به من حقائق أم لا. المهم أن تكون متطابقة مع ما أنا أؤمن به. إننا في عصر صار فيه نشر الزيف والكذب ليس سهلا ويسيرا فحسب بل مقبولا ومدعوما على نطاق واسع.
وهذا الوضع يؤثر سلبا في الذين يشغلون عقولهم ويمارسون النقد قبل قبول أو رفض المعلومة. هؤلاء صاروا في حيرة لأن التميز بين الصدق وعدمه لم يعد يسيرا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي