هل ينقذ الإنفاق الحكومي الاقتصاد العالمي من تعثره؟
لطالما كانت أفكار عالم الاقتصاد البريطاني "كينز" حاضرة في أزماتنا الاقتصادية، فكما كانت الحل السحري لخروج العالم من أسوء أزمة اقتصادية في ثلاثينيات القرن الماضي "الكساد الكبير"، فحاضرنا مازال في حاجة لها. فعالمنا يعاني طلبا منكمشا ونموا اقتصاديا ضعيفا، وقطاع خاص منهك بصدمات اقتصادية وتجارية وجيوسياسية وغير قادر على تحفيز الاستهلاك وأسواق العمل. ومن هنا فتدخل الحكومات عبر تفعيل أدواتها المالية كالإنفاق أصبحت أولوية لتفادي الدخول في دائرة من التعثرات سيكون تكلفة الخروج منها باهظة.
لم تملك الحكومات الرفاهية لتنشيط الإنفاق، إنما فرض عليها، فالأسواق تعاني ضعفًا في الإنتاج والاستهلاك. ومع ارتفاع الحمائية التجارية والمخاطر الجيوسياسية، فقد وجهت السياسات أنظارها تجاه خطط تحفيز حكومية تعيد الثقة للمنتجين وتطور البنية التحتية وتدعم القدرة الشرائية للمستهلكين، وتعيد بناء سلاسل الإمداد المحلية. وتعزز من قوتها العسكرية والتكنولوجية عبر زيادة الإنفاق الدفاعي وعلى التكنولوجيا المتقدمة كالذكاء الاصطناعي.
في ألمانيا حيث الإرث في التقشف الحكومي وضبط الإنفاق وفقًا لما تعارف عليه تاريخياً بسياسة "مكابح الديون" المستمرة منذ سنوات بهدف الحفاظ على الدين العام عند مستويات يسهل السيطرة عليها. جاء 2025 ليكسر القاعدة، فالحكومة الجديدة تبنت خطة إنفاق بقيمة 500 مليار يورو، بهدف تحديث البنية التحتية ورفع الإنفاق الدفاعي وتمويل مشاريع الطاقة المتجددة. تخطي السياسات المنضبطة في أكبر اقتصاد أوروبي يأتي في ظل معاناة اقتصادية مستمرة منذ أزمة كورونا، وتراجع في تنافسية القطاع الصناعي، وتآكل في الإنفاق الاستهلاكي، وضغوط خارجية على الصادرات بسبب الرسوم الجمركية.
في الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، تبنت السلطات خطط إنفاق تهدف لإعادة الثقة في الاقتصاد وتعزيز الاستهلاك وتنشيط الطلب المحلي ودعم الابتكار التكنولوجي، وتقديم المعونة للشركات المتعثرة بسبب الرسوم الجمركية. كما قدمت البلاد أخيرا دعمًا للأسر بقيمة تتجاوز 500 دولار سنوياً لكل طفل دون 3 سنوات للتشجيع على الإنجاب للتغلب على أسوأ أزمة سكانية تواجه البلاد منذ عقود.
في اليابان حيث ينكمش الاقتصاد بوتيرة متسارعة متأثراً بتآكل إنفاق الأسر مع ارتفاع أعداد السكان في سن الشيخوخة، فإن الحكومة تواصل إطلاق البرامج التحفيزية لتنشيط الاقتصاد ودعم الشركات.
خطط الإنفاق الحكومي تواجه تحديات هائلة تهدد فاعليتها، البداية من شروط التمويل، ففي ظل ارتفاع أسعار الفائدة وتراجع الجدارة الائتمانية لعديد من الاقتصادات الكبرى بسبب العجز المزمن في الميزانيات الحكومية وارتفاع معدلات الديون، فإن شروط التمويل عن طريق الاقتراض ستكون قاسية، وقد تكون عائق أمام تنفيذ كافة البرامج المخطط لها.
التحدي الآخر يتمثل في كفاءة تخصيص الإنفاق والعوائد السريعة على المؤشرات الاقتصادية. المخصصات المالية لتطوير البنية التحتية قادرة في المدى القصير على إعطاء دفعة قوية لأسواق العمل وتحفيز الاستثمار والتشغيل، بينما الإنفاق الدفاعي لن تخلق عوائده الاقتصادية أثر واضح في الأسواق، نظرًا لارتباطه بمشتريات من خارج الدولة.
وهناك أوجه إنفاق لن تحقق آثارا اقتصادية مباشرة على المدى القصير لكنها ذات بعد إستراتيجي وحيوي للاقتصاد، ومنها دعم الابتكار والبحث والتطوير في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والرقائق المتقدمة، بجانب خطط تحول الطاقة ومكافحة التغير المناخي عبر الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة، والتوسع في البنية التحتية للتقنيات النظيفة مثل السيارات الكهربائية.
ختامًا فالإنفاق الحكومي يظل ورقة رابحة في جعبة الحكومات تستخدمها عند حاجتها لضخ الدماء في شرايين الاقتصاد لإعادة تشغيل محركاته، ولكن يجب أن يقتصر دور الإنفاق في كونه محفز طارئ وليس محرك دائم للنشاط الاقتصادي. لما لذلك من مخاطر على كفاءة البيئة الاقتصادية والتنافسية، بجانب مخاطر الديون. فالوضع الأفضل للحكومات في الاقتصاد أن تكون منظمة وفي بعض الأحيان داعم وليس لاعب رئيسي.
مستشارة اقتصادية