التعدين والطاقة.. أنموذج للتكامل
يعد قطاعا التعدين والطاقة ركيزتين أساسيتين للاقتصاد السعودي، حيث يمكن القول في اعتقادي إنّ كلا منهما مكمل للآخر في مسيرة التنمية المستدامة. الجدير بالذكر أن العلاقة بينهما ليست علاقة تبادلية بسيطة، بل هي في رأيي تعد تكاملا إستراتيجيا يعزز مكانة المملكة كقوة اقتصادية إقليمية وعالمية، فبلا إمدادات موثوقة للطاقة لا يمكن للمشروعات التعدينية أن تعمل بكفاءة، ومن دون المعادن لا يمكن للطاقة أن تتوسع أو تتحول نحو مصادر جديدة.
قطاع التعدين في المملكة يتمتع بفرص استثنائية وواعدة، إذ تقدر قيمة الثروات المعدنية غير المستغلة بأكثر من ٩,٣ تريليون ريال سعودي (أي نحو ٢,٥ تريليون دولار)، وهو ما يشير إلى قفزة بنسبة 90٪ مقارنة بالتقديرات السابقة. هذا الارتفاع الكبير بلا شك يعكس الإمكانات الهائلة الكامنة في باطن الأرض السعودية من ذهب ونحاس وفوسفات ومعادن إستراتيجية نادرة تدخل بشكل مباشر في صناعة الطاقة المتجددة والتقنيات الحديثة.
تم استثمار ٢٤٦ مليار ريال سعودي لدعم قطاع التعدين والمناجم، في خطوة تؤكد جدية المملكة في جعل التعدين ركيزة أساسية للاقتصاد إضافة إلى النفط والبتروكيماويات والأنشطة الاقتصادية الأخرى.
هذا الاهتمام انعكس على مكانة السعودية في مؤشرات الاستثمار العالمية، حيث تقدمت في مؤشر جاذبية الاستثمار في التعدين من المرتبة 104 عام 2013 إلى المرتبة 23 عالميا في 2024، ما يعزز ثقة المستثمرين الدوليين في السوق السعودي. كما يشغل قطاع التعدين ما نسبته 1.6٪ من قوة العمل، بعدد يقدر بنحو 250 ألف موظف، مع توقعات بزيادة هذا العدد مع توسع المشاريع، والخطط الإستراتيجية لتمكين هذا القطاع.
على الجانب الآخر، يشكل قطاع الطاقة المحرك الأساسي لنجاح التعدين، فالمناجم على سبيل المثال تحتاج إلى الكهرباء لتشغيل المعدات الثقيلة وضخ المياه وتشغيل أنظمة المعالجة والتكرير. في 2023 بلغت القدرة المركبة للكهرباء في المملكة نحو 119,6 جيجاواط، مقارنة ب 117,4 جيجاواط في 2022، ما يعكس توسع البنية التحتية لتلبية الطلب المتزايد من الصناعات بما فيها التعدين.
في رأيي، تسعى السعودية بكل قوة إلى تعزيز حضورها في مجال الطاقة المتجددة للتكامل مع الوقود الأحفوري، حيث بلغت الاستثمارات في مشاريع الطاقة المتجددة حتى نهاية 2024 ما يقارب 19,9 مليار ريال ، منها 18,2 مليار ريال في مشاريع الطاقة الشمسية ونحو 1,7 مليار ريال في مشاريع الرياح. هذه المشاريع لا تسهم فقط في إنتاج الكهرباء من مصادر متجددة، بل تخدم أيضا عمليات التعدين عبر خفض التكاليف التشغيلية والانبعاثات الكربونية، لتكون الصناعة التعدينية أكثر استدامة. من المقدر أن توفر هذه المشاريع الطاقة لما يزيد عن 1,14 مليون وحدة سكنية في أنحاء المملكة، ما يعكس حجم تأثيرها الاقتصادي والاجتماعي.
لا يمكن إغفال الدور المحوري لقطاع النفط الذي ما زال يمثل العمود الفقري للطاقة السعودية، إذ تصل القدرة الإنتاجية المستدامة القصوى لشركة أرامكو إلى نحو 12 مليون برميل يوميا. هذه القدرة تجعل المملكة لاعبا رئيسيا في استقرار أسواق الطاقة العالمية، كما تتيح توجيه جزء من العائدات نحو الاستثمار في قطاعات واعدة مثل التعدين.
إن هذا التكامل بين التعدين والطاقة يمهد الطريق أمام المملكة لتحقيق أهداف رؤية 2030 التي تسعى إلى تنويع مصادر الدخل وبناء اقتصاد قائم على المعرفة والصناعة. من خلال هذا التكامل، يمكن بناء صناعات تحويلية تعتمد على المعادن والطاقة معا، مثل صناعة البطاريات المتقدمة أو إنتاج الهيدروجين الأخضر الذي يحتاج إلى طاقة متجددة من جهة ومعادن إستراتيجية من جهة أخرى. كما يسهم ذلك في جذب استثمارات عالمية وتوفير وظائف نوعية وتعزيز المكانة الجيوسياسية للمملكة في سوقي الطاقة والمعادن.
ختاما، أود أن أوضح أن العلاقة بين قطاعي التعدين والطاقة في السعودية علاقة تكاملية عميقة، فالطاقة هي شريان التعدين، والمعادن هي عصب الطاقة الحديثة. ومن خلال استغلال هذه العلاقة الإستراتيجية الاستغلال الأمثل، تستطيع السعودية ليس فقط تعزيز اقتصادها الوطني، بل أيضا قيادة التحول الصناعي العالمي نحو الاستدامة، وهي بلا شك أهل لذلك.
مختص في شؤون الطاقة