هل تحول السعودي؟

حدث تطور مهم في المملكة (التحول الوطني ورؤية 2030) لإعطاء القرار الاقتصادي "مركزية" جديدة بعد عقود من مركزية الحالة "الأبوية" التي تكون فيها القوى الاقتصادية نتيجة أو تحصيل حاصل أكثر منها قاعدة للتحول المجتمعي. هذا العنوان الكبير للدعوة للتحول ولكن محركها الخفي يتم عبر "عقلنة" القرار على أكثر من مستوى اجتماعي. القرار الأبوي يتضمن معاني اجتماعية في المجمل ولكن القرار الاقتصادي يتضمن معاني عقلانية. مسافة التحول طويلة وشاقة ولكن البوصلة تشير إلى الأمام. بين هذه المسافات هناك خلافات واختلافات حول الأولويات والجزيئات ولكنها طبيعة التحول، حيث لا يتم دون تغيير مراكز اقتصادية واحتكاكات هنا وهناك. الإشكالية العملية تبقى دائما في التفاصيل. تتحمل عملية التحول بعض الأخطاء ولكنها لا تتحمل الكثير، كما أنها تراهن على العقلانية ـــ المنهجية العلمية ـــ القادرة على استدراك الأخطاء من خلال المراجعة والتصحيح. ولكن من الناحية الواقعية هناك إشكالية أخرى أهم في نظري، حيث إن الجميع يتصرف بعقلانية ولكنها عقلانية فردية النزعة وقصيرة الأجل وبالتالي في تناف مع المصلحة الجماعية أو المدى البعيد. التحدي القيادي في فهم والتعامل مع هذه الواقعية بما يخدم مصلحة الوطن.
تسيطر العقلانية الفردية على أغلب الأفراد وبما أن المؤسسات ليست بالقوة والفعالية يسود التصرف الفردي ويشكل الواقع الإداري في كل منشأة. هذا النمط الإداري موجود حتى في القطاع الخاص حين تملك مجموعة صغيرة نسبة صغيرة من أسهم الشركة وتتحكم بالغالبية في إطار حوكمة لم يستوعب هذا التسلط. فليس غريبا أن تجد مدير شركة أو مصرف يهتم بأبعاد المنافسة أو أن تكون الاستثمارات في الأصول على حساب الاستثمارات الرأسمالية أو المعرفية أو أن تكون الشهادة أهم من التعليم الحقيقي أو أن المنظمة الحكومية المختصة في مجال معين لديها سلطة ناقصة أو التعليم الخاص الذي أصبح أحد سبل التجارة وليس للتعليم كما في عديد من كليات الطب والقانون الخاصة. تحاول الحكومة عقلنة المجتمع من خلال البناء المؤسساتي ولكن دور الأفراد أعمق تأثيرا. ولكن لا تقف الأمور هنا، فنجاح الفرد المبني على العقلانية في المقام الأول غالبا ينتهي باللاعقلانية لما تصل الثروة إلى مستوى معين أحيانا وأحيانا لما تصل إلى الجيل التالي. هذا المزيج من التصرفات العقلانية واللاعقلانية في مجملها تربك ولا تخدم الاقتصاد في المدى البعيد.
يقول شارلز ميوري Charles Murray أحد أبرز علماء المجتمع في أمريكا وبعد تجارب في العلاقة بين القرار المركزي في تايلاند وتأثيره في الإصلاحات في الريف ودراسات حول الأقليات في أمريكا وتأثير برامج الرفاهية في جميع الطبقات، إن الأفراد ينظرون إلى الدور الحكومي ويحاولون استغلاله عقلانيا ولكن في المدى القصير، ولكن المدى القصير يستمر ليصبح المدى البعيد. بل إن أدوات هذه البرامج تصبح فاسدة أحيانا ومكلفة غالبا وتعمل على تخدير المواطن والجماعات المستهدفة. السياسة الحكيمة أن تعرف القيادات متى ينتهي دور المساعدات والبرامج الحكومية ومتى يبدأ دور الأرضية والبيئة العامة الكفيلة بجعل القرارات عقلانية وجماعية في المدى البعيد. السائد لدينا اليوم هو نعت هذه الدعوة بالمثالية أو الأكاديمية إما بسبب الجهل أو بسبب قصور المراجعة لمواصلة استغلال ما يمكن في أسرع وقت. وصل الحد إلى أن مديري شركات ومصارف يقررون زيادة رواتبهم وتعيين كل وظيفة رقابية وممارسة حوكمة شكلية. حين تراهن الحكومة على دور أكبر للقطاع الخاص فلابد للحوكمة أن تكون أكثر دقة وتدخلا وألا يكون التخصيص ضعيفا.
أخذنا بخطوة إلى الإمام ولكن الطريق طويل وشاق، الرحلة من عقلانية فردية نفعية وقصيرة المدى خاصة في القطاع الخاص إلى محاولات حكومية طويلة الأجل لترسيخ عقلانية جماعية تتحد فيها الجهود وتنفذ فيها الحوكمة. لابد للجهات الرقابية أن تكون أكثر شجاعة وأن تحصل على حماية وتتحمل درجة من الأخطاء المقبولة إذ ما زال هناك تردد غير مفهوم للأخذ بالتجريب والشجاعة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي