كيف تختفي الثروات في ظل الضبابية والارتجالات؟
ما أن تَنفس الاقتصاد العالمي الصعداء بعد موجة عاصفة من الحروب التجارية والمواجهات العنيفة التي سببتها قرارات الإدارة الأمريكية برفع التعريفات الجمركية على عديد من دول العالم وأكبر كياناتها وتكتلاتها الاقتصادية، ظناً منه -أي الاقتصاد العالمي- أنه دخل في فترة تهدئة واستعادة التوازن إلا وعادت الأسواق لتحبس أنفاسها في مواجهة تهديدات جديدة لزيادة الرسوم الجمركية بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي.
لقد عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى تهديداته للاتحاد الأوروبي برفع الرسوم الجمركية بمعدل 50% في مطلع شهر يوينو المقبل وبدا غاضباً جداً من سير المحادثات التجارية الجارية بين الاتحاد الأوروبي وبلاده الذي يعتقد أن الاتحاد الأوروبي يستغلها أبشع استغلال ويسرف في إعلاء مصلحته مقابل الإضرار بمصلحة الأمريكيين.
فالرئيس الذي وصف التعامل مع الاتحاد الأوروبي بأنه بالغ الصعوبة يرى أن الحواجز التجارية والضرائب التي يقرها الاتحاد الأوروبي والعقوبات المكبلة للواردات الأمريكية كما التلاعبات النقدية، والدعاوى القضائية غير العادلة ضد الشركات الأمريكية، أثرت بشكل جائر في الميزان التجاري بين الاتحاد والولايات المتحدة وتسببت بعجز تجاري لصالح الاتحاد الأوروبي.
على وقع هذه التهديدات تراجعت الأسواق الأوروبية وسجلت مؤشرات أسواق الأسهم في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا خسائر راوحت بين 2.8% و1.4%.
كما تأثرت الأسواق الأمريكية نفسها على ضوء هذه التصريحات، حيث تخشى الأسواق الأمريكية ارتفاع نسبة التضخم واضطراب سلاسل التوريد، ما قد يقود إلى تباطؤ النمو في الاقتصاد الأمريكي كما الاقتصادات العالمية الأخرى.
يحين الدور على الأوربيين هذه المرة بعد حرب تجارية وتصريحات نارية بين الولايات المتحدة من جهة وبين الصين وكندا والمكسيك من جهة أخرى، ما يجعل هذه المواجهات حلقة في سلسلة من المواجهات التي تشهدها الساحة الدولية ولا نعلم حتى الآن إن كانت الأخيرة.
وقفت الصين وكندا في وجه تهديدات زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية ما قاد إلى مفاوضات تجارية أدت إلى نوع من التفاهمات وإن لم تسفر عن اتفاقيات طويلة الأمد.
في أوروبا أصبح النبيذ الفرنسي الفاخر والسيارات الألمانية الفارهة الآن مهددة وقد لا تجد طريقها بسلالة إلى الأسواق الأمريكية التي تمثل جزءا مهماً من مبيعاتها خارج بلدان الاتحاد الأوروبي.
وحتى مع تراجع ترمب عن إقرار التعريفات الجمركية في مطلع يونيو وتأجيلها إلى شهر يوليو المقبل فإن مثل هذه التهديدات أو القرارات التي يتم التراجع عنها مثل ما حدث في أحداث عدة خلال الأشهر الماضية من تولي الإدراة الأمريكية سدة الرئاسة في البيت الأبيض قادت إلى خسائر كبرى في أسواق المال ليس في أمريكا وحدها بل في عديد من أسواق الأسهم في العالم وخصوصا تلك التي ترتبط بالاقتصاد الأمريكي بمعامل ارتباط عالي النسبة، ما نتج عنه اختفاء ثروات هائلة وتراجع أصول كبيرة من الاستثمارات والأموال حول العالم.
قد تُستخدم التعريفات الجمركية كأداة لتحقيق ضغط اقتصادي أو سياسي ثم يتم التراجع عنه بعد تنفيذ الإستراتيجة التفاوضية، لكن ماذا عن الخسائر التي تكبدتها كبريات الشركات والأفراد؟ وماذا عن الإشارات التي ترسلها مثل هذه القرارات إلى مؤشرات النمو الاقتصادي وحجم الطلب العالمي على النفط؟ وماذا عن الخطط المستقبلية التي تتعرض لهزة عنيفة ويصعب الاستمرار بتنفيذها بسبب ما قد يسميه بعضهم بالقرارات الارتجالية ويطلق عليه البعض إستراتيجية تفاوضية؟
كيف يتم التعافي من الضرر الذي يحدث عندما تُرسل هذه الإشارات إلى الأسواق، لقد عمد الاقتصاد الحر على استقلالية الأسواق وعدم التأثير فيها وحرية التجارة والخضوع لمبدأ العرض والطلب، وهذا ما بدى أخيرا تحت المساومة، ما يؤثر في خطط اقتصادية كبرى وثروات ضخمة وأسواق هائلة ترضخ تحت ضغط هذه التقلبات التي ما أن تتنفس الصعداء حتى تحبي أنفاسها مجدداً.