كيف يعيد القانون الأوروبي تشكيل اقتصاد كرة القدم
في الرابع من أكتوبر 2024، أصدرت محكمة العدل الأوروبية حكمًا فارقًا أعاد تشكيل العلاقة بين لوائح الفيفا المنظمة لانتقالات اللاعبين والقانون الأوروبي. يُعرف هذا الحكم باسم "حكم ديارا"، نسبة إلى اللاعب الفرنسي المعتزل لاسانا ديارا، الذي فشل في الانتقال إلى نادي شارلروا البلجيكي عقب فسخ عقده مع لوكوموتيف موسكو، بعد أن تراجع النادي البلجيكي عن الصفقة خوفًا من التبعات القانونية المنصوص عليها في المادة 17 من لوائح الفيفا، والتي تُحمّل اللاعب والنادي الجديد مسؤولية مالية مشتركة، وتجيز فرض عقوبات رياضية إذا فسخ اللاعب عقده دون ما يسمى بـ "سبب مشروع".
محكمة العدل الأوروبية، وفي سابقة قانونية جديدة، قضت بأن المادة 17 من لوائح الفيفا تخالف قانون الاتحاد الأوروبي على مستويين.
أولًا، اعتبرت المحكمة أن اللوائح تُقيد حرية تنقل اللاعبين بصفتهم عمالًا داخل دول الاتحاد، وهو ما يُعد انتهاكًا مباشرًا للمادة 45 من معاهدة عمل الاتحاد الأوروبي. ثانيًا، رأت المحكمة أن هذه اللوائح تخرق المادة 101 من المعاهدة ذاتها، حيث تُقيد الأندية من الدخول في مفاوضات حرة مع لاعبين مرتبطين بعقود أو من أنهوا عقودهم، ما يتعارض مع مبدأ المنافسة العادلة في السوق الموحدة.
وأكدت المحكمة أن هذه القيود غير متناسبة مع الهدف المشروع المتمثل في الحفاظ على استقرار العقود، ما يجعلها قانونيًا غير مبررة. وعليه، أحيل القرار النهائي بشأن التعويضات إلى محكمة الاستئناف في مونس البلجيكية، التي ستُحدد إن كان الفيفا والاتحاد البلجيكي مطالبين بتعويض ديارا عن حرمانه من الانتقال.
هذا الحكم لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق الأوسع من التوتر القانوني بين الفيفا ومحاكم الاتحاد الأوروبي. كما أوضحت في مقالي السابق بعنوان "سقف العمولات في كرة القدم.. فيفا في مواجهة السوق الأوروبية"، فإن الفيفا تواجه دعوى موازية أمام المحكمة نفسها، تتعلق بمحاولتها فرض لائحة جديدة لتسقيف عمولات وكلاء اللاعبين (FFAR).
وقد واجهت تلك اللائحة طعونًا قانونية في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا، استنادًا إلى خروقات محتملة للمادتين 56 و101 من معاهدة الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن اتهامات باستغلال موقع مهيمن بموجب المادة 102. القضية المعروفة بالرقم C-209/23 أُحيلت إلى محكمة العدل الأوروبية، وهي تنظر في مدى مشروعية الحوكمة المركزية للفيفا في مقابل حرية تقديم الخدمات داخل الأسواق الأوروبية.
ما يربط بين قضية ديارا وقضية سقف العمولات هو أن كليهما يكشف عن تصاعد التوتر بين الحوكمة الرياضية الدولية والنظام القانوني الأوروبي. في كلتا الحالتين، يسعى الفيفا إلى فرض نموذج تنظيمي عالمي موحد، بينما تدافع المحاكم الأوروبية عن خصوصية الأسواق الوطنية وضرورة احترام الحريات الأساسية في التنقل والتعاقد.
وبعد صدور حكم ديارا، سارع الفيفا إلى إدخال تعديلات مؤقتة على لوائحه، تضمنت إعادة تعريف "السبب المشروع"، وتحديث آلية احتساب التعويضات على أساس الضرر الفعلي، وتقليص المسؤولية المشتركة لتقتصر على الحالات التي يثبت فيها التحريض من النادي الجديد.
كما أطلقت حوارًا عالميًا تشاركيًا يضم الأندية، الاتحادات، واللاعبين، بهدف إعادة صياغة نظام الانتقالات بما يتماشى مع المتطلبات القانونية في أوروبا.
من الناحية الاقتصادية، فإن هذا الحكم يُتوقع أن ينعكس بعمق على سوق انتقالات اللاعبين. إزالة القيود القانونية من شأنها أن تُنشّط السوق، وتُقلص الفجوة بين الأندية الكبرى والأندية المتوسطة، وتُعزز من القوة التفاوضية للاعبين.
كما يُتوقع أن تنمو صناعة الاستشارات القانونية والرياضية المتخصصة في إدارة العقود والنزاعات العابرة للحدود. هذا المشهد يظهر ملامح مشابهة لما ناقشته في قضية سقف العمولات، إذ إن التنظيم المفرط دون مراعاة تنوع السياقات القانونية والاقتصادية قد يؤدي إلى نتائج عكسية تعيق الكفاءة وتُضعف جودة التمثيل والصفقات.
خلاصة القضيتين أن كرة القدم لم تَعُد فقط صناعة رياضية، بل أصبحت قطاعًا اقتصاديًا يخضع لقواعد الحوكمة القانونية والشفافية السوقية. لم تعد الفيفا قادرة على فرض أنظمتها بمعزل عن الأنظمة القضائية المحلية، خصوصًا في الاتحاد الأوروبي، الذي أضحى فاعلًا مركزيًا في صياغة قواعد السوق الرياضية. من بوسمان 1995، إلى ديارا 2024، ومرورًا بقضية سقف العمولات المنتظرة C-209/23، تتشكل تدريجيًا بنية قانونية جديدة تُعيد صياغة العلاقة بين الرياضة، القانون، والسوق.