Author

التعليم القانوني المتخصص

|
يشهد المجتمع الخليجي طفرة في التعليم القانوني؛ وهي نتيجة طبيعية للتطور الاجتماعي الذي تشهده المجتمعات الخليجية وتغير المفاهيم والتفكير، كذلك التراكم التنظيمي للدولة الحديثة وزيادة الارتباط بالتشريعات وما يصاحب ذلك من احتياج قطاع المال والأعمال إلى الحماية القانونية وكيفية التعامل مع الأزمات بما يتواءم مع القوانين؛ وهذا كله يدعو إلى إعادة النظر في طريقة التعليم القانوني وكيفية بناء المخرجات التي تسهم في إيجاد الحلول الدقيقة ورفع الكفاءة القانونية وتمازج بين النواحي النظرية والتطبيقية وتكون قادرة على مواجهة التحديات والمتغيرات، بل استحداث النظريات القانونية وفق القواعد المنطقية السليمة، ومن أهم الطرق في معالجة ذلك الاهتمام بفكرة التخصص القانوني. فبعد أن كانت التخصصات القانونية العامة هي المناهج الأكاديمية العامة للتعليم ينبغي إنشاء أقسام خاصة في الدراسات العليا والدبلومات تعنى بالتخصص الدقيق؛ مثل إنشاء قسم للقانون التجاري والقانون العمالي وهكذا، ولا مانع من استحداث تخصصات أكثر دقة مثل قسم لقانون الشركات وقسم لقانون التمويل والاستثمار وقسم لقانون التأمين وقسم لقانون الأوراق المالية وممكن ربطه بمرحلة الدكتوراه، حيث يمر الطالب بالتخصصات العامة ثم تضييق الدائرة التعليمية ليكون أكثر عمقا؛ فالتخصص يدعم الاستقلالية ورسم الحدود ووضع المصطلحات القانونية لهذا القسم وتجديد النظريات الموظفة لخدمة هذا التخصص وكل التقنيات العلمية المطورة للتخصص؛ وهذا يجعل المختص يركز على القدرات العقلية المفتوحة لكونه متفرغا لهذا التخصص ردحا من الزمن بعيدا عن السطحية، بل يغوص في العمق ليظهر الجديد والنتائج العميقة المترابطة ويكون ملما بكل جزئياته، بل يستطيع استحداث جزئيات وافتراضات قابلة للوقوع. إن الإلمام بالتخصص القانوني الدقيق هو إلمام بالأسس القانونية إلا أنه يكون أكثر دقة في مجالات معينة، وربما يعاب على القانوني المتخصص أنه يعيش في حالة انغلاقية في تخصصه الضيق إلا أن الحقيقة العلمية تدل على أن هذا الانغلاق ليس معزولا تماما، بل هو متفرع من الشجرة الأساسية؛ فهي تتداخل مع البناء القانوني وتتشابك بشكل طبيعي وأساسي لكون الأسس القانونية واحدة وإنما الاختلاف في الجزئيات، فالأصول العامة والنظريات الأساسية مشتركة وتتفق كلها مع القواعد القانونية، ولو أخذنا حالة بعيدة عن المتابعة الأكاديمية لكونها بلدا مشهورا بالتقنية أكثر من التعليم القانوني مثل اليابان ففي بداية التسعينيات أصدرت الجامعات المعنية بالتعليم القانوني منهجا قانونيا يتألف من ستة رموز أساسية: القانون الدستوري، والقانون المدني، والقانون التجاري، والإجراءات المدنية، والقانون الجنائي، والإجراءات الجنائية. بقي هذا النظام الأساسي في التعليم القانوني الياباني إلى نهاية القرن العشرين، ثم تطور إلى تخصصات أخرى معتمدا على الامتحانات أكثر من التدريس التقليدي ونسبة النجاح فيه لا تتعدى 3 في المائة وفق معدل اختبارات القبول وبالتالي لا تجد قانونيا في اليابان حاصلا على رخصة محاماة إلا وهو جدير بها لكونه أجرى امتحانات قبول ومارس ميدانيا وأصبح نابغا في هذا الفن، وفي أوروبا وبالذات في فرنسا تكون النظرة التخصصية في مرحلة الماجستير فأول سنة من برنامج الماجستير 1M هو التخصص في: القانون العام، القانون الخاص، القانون الإداري، القانون العالمي والأوروبي وما إلى ذلك. والسنة الثانية من برنامج الماجستير في القانون M2 تكون موجهة إلى العمل أو البحوث "يكتب الطلاب أطروحة الماجستير ثم يشرعون في برامج الدكتوراه مثل درجة الدكتوراه في القانون". وتكون السنة الثانية تنافسية "يعتمد دخولها على درجات الطالب والنتيجة العامة والأنشطة اللامنهجية"، وبشكل عام تكون في التخصصات "قانون الملكية الفكرية، قانون العقود، الحريات المدنية، ونحوها"، ونجد الحالة في أمريكا قريبة من هذا المنهج وتختلف الحالة في أن الطلاب يشرعون في دراستهم القانونية بعد إنهاء الجامعة مرحلة البكالوريوس في بعض المجالات. فمن الممكن أن تكون الدرجة الجامعية في أي مجال، على الرغم من أن عديدا من المحامين الأمريكيين يحملون درجة البكالوريوس في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومن المهم في كل تخصصات القانون في بلدنا والبلدان التي تعتمد الشريعة الإسلامية أحد مصادرها القانونية دراسة مواد فقهية في الشريعة الإسلامية، حيث يدرس الطالب مادة أصول الفقه ومادة الفقه خاصة ما يتعلق بالنظريات الفقهية في باب المعاملات ومادة القواعد الفقهية ومقاصد الشريعة الإسلامية، ويتعمق فيها الطالب القانوني حسب مرحلته الجامعية واحتياج التخصص إليها وفق التوصيف العلمي لمناهج الدراسة دون استطراد في أبواب لا يحتاجها في تخصصه القانوني، وهذه ستسهم في ردم الاضطراب الذي يعترض أذهان البعض من وجود تناقض بين الفقه الشرعي وبين الفقه القانوني، وختاما يستحسن إدخال النواحي التطبيقية في ختام المرحلة الدراسية، حيث تتم تهيئة الطالب نسبيا للواقع العملي، وكلما تم كانت التطبيقات أكثر، كان الطالب أكثر تهيئة ونضجا علميا، ولا تقتصر التطبيقات على ما يجري داخل أروقة المحاكم مع أهميته ولكن كل ما يرتبط بالتعليم القانوني مثل التدريب في مكاتب المحاماة والجهات التشريعية والمراكز المالية وشركات التأمين والتمويل والإدارات المعنية في المصارف وجهات التحقيق والأدلة الجنائية؛ فهذه كلها تبني عقلية تطبيقية قادرة على استيعاب سوق العمل في كل تخصصاته الدقيقة.
إنشرها