السر الهولندي «3» ـــ العيش فوق الماء

تحدثنا فيما سبق عن قدرة الهولنديين المميزة على التعايش مع وضعهم الجغرافي الصعب وتميزهم في الحفاظ على أقدامهم جافة حتى وهم يعيشون تحت مستوى سطح البحر. لكن ما ذكرناه ــ وإن كان مميزا ــ إلا أنه يمثل طرقا تقليدية إلى حد كبير من حفر القنوات المائية إلى إنشاء الطواحين الهوائية والسدود التقليدية. في هذا المقال سنتحدث عن مفهومين مميزين في تعامل الهولنديين مع الماء بطريقة تختلف عن أغلب شعوب العالم. المفهوم الأول ــ الذي كان ثوريا في وقته ــ هو إنشاء سدود لصد البحر من دون التأثير في الملاحة البحرية أو الحياة البحرية "السد المفتوح". المفهوم الثاني ــ الذي يعد ثوريا الآن ــ هو عدم صد الماء بل السماح له بالحرية الكاملة في إغراق الأرض (الجزر الجديدة).
في السبعينيات ومع استمرار الحكومة في عمليات بناء السدود لحماية الساحل الهولندي، قررت التوجه جنوبا نحو المنطقة الأضعف من ناحية التحصينات. كانت التحديات هناك أكبر منها في الساحل الشمالي، ففي الجنوب تقع روتردام، وهي ثاني أكبر ميناء في أوروبا ومنفذ الهولنديين على العالم. السد التقليدي سيعقد الملاحة في المنطقة وسيضر بالمدينة وبالدولة اقتصاديا. التحدي الثاني هو وجود مصبات الأنهار الثلاثة هناك حيث توجد ــ في الدلتا عند التقاء الأنهار بالبحر ــ بيئة بحرية مميزة وحساسة. كانت هذه البيئة مصدرا لكثير من الأسماك والطيور، وكانت أيضا موردا تجاريا مهما للصيادين في جنوب هولندا. إقامة سدود تقليدية سيقضي على قطاع تجاري مهم ــ صيد الأسماك ــ وسيضر بالبيئة. أدى هذا إلى ضغوط على الحكومة من جماعات مناصرة للبيئة خصوصا، ما حدا بها إلى الاستعانة بالمختصين لحل هذه المعضلة: كيف نحمي روتردام والساحل الجنوبي من الفيضانات ــ كما حدث في 1952 ــ من دون الإضرار بالملاحة أو صيد الأسماك أو البيئة البحرية هناك؟
كان الحل إقامة سدين مميزين من ضمن عديد من السدود والمشاريع التي عدت في مجملها ثامن عجائب الدنيا، وعرفت بأعمال الدلتا الجنوبية وسنتحدث هنا عن أشهرها فقط. قام المهندسون الهولنديون في الجزء الجنوبي من دولتهم بتصميم سدين لم يعرف لهما العالم مثيلا من قبل. الأول وهو أطول سد في العالم Oosterscheldekering عبارة عن 63 بوابة مفتوحة على الدوام، مما يسمح بمرور الماء والقوارب وضمان استمرار البيئة البحرية. كل بوابة بارتفاع مبنى من عشرة طوابق بعرض 40 مترا. عند اقتراب عاصفة، يتم إقفال البوابات في الوقت ذاته. تم إنجاز هذا السد الهائل في عشر سنوات وبميزانية قاربت عشرة مليارات ريال. أما في روتردام فكان التحدي أكبر. لم يكن من المقبول بناء سد تقليدي أو حتى سد ببوابات متحركة، فهذا من شأنه تعطيل الملاحة البحرية لميناء روتردام وهو ثاني أكبر ميناء في أوروبا وأكثر الموانئ ازدحاما في العالم. ولهذا فقد تم في عام 1997 إنشاء سد Maeslantkering المميز عن جميع السدود في العالم، فهو عبارة عن بوابتين ــ كل واحدة على شكل قوس بطول 240 مترا وارتفاع 22 مترا ــ مفتوحتين على الدوام ويتم إقفالهما عند وجود خطر الفيضانات بتحريك البوابتين عبر مفاصل كروية هي الأكبر في العالم حيث يبلغ طولها عشرة أمتار ووزنها 680 طنا! هذا السد الذي يعد من أكبر الإنشاءات المتحركة على وجه الأرض، تم بناؤه في سبع سنوات ولم تتم تجربته إلا في عام 2007 واجتاز الاختبار بنجاح. إغلاق البوابتين يتحكم فيه برنامج حاسوبي متقدم يعتمد على بيانات الطقس وسرعة الرياح وارتفاع الأمواج.
وبعد مرور مئات السنين من الحرب السجال بين الهولنديين والماء وبعد حفر آلاف القنوات وإقامة الآلاف من الطواحين الهوائية وبناء مئات السدود المختلفة الأحجام والأشكال، يتحدث أهل هولندا الآن عن طريقة مختلفة تماما لمواجهة الفيضانات. هذه الأيام لا نسمع تلك الأحاديث المعتادة من الوقوف في وجه البحر أو بناء السدود أو ضخ المياه، بل على العكس تماما نسمع أصواتا تنادي بإفساح المجال أمام الماء لغزو البلد! فهل استسلم الهولنديون أخيرا؟ الفكرة ببساطة هي التخلي عن بعض الأراضي المنخفضة ذات الكثافة السكانية القليلة وإغراقها عمدا في سبيل حماية المناطق الأخرى ذات الكثافة السكانية العالية. المشروع الذي يتم الانتهاء منه الآن يسمى مساحة للنهر أوRoom for the River، ويستهدف الإغراق المتعمد لبعض المناطق المنخفضة في طريق الأنهار الهولندية الأربعة الرئيسة "الراين، الميوز، الفال، والآيسيل". السكان في هذه المناطق تم نقلهم إلى أماكن أخرى مع وجود اقتراحات ببناء مساكن عائمة في هذه المناطق. هذه الفكرة لم تعد ضربا من الخيال، فقد تم بالفعل إنشاء أول منطقة سكنية متكاملة من بيوت عائمة Waterbuurt في إحدى ضواحي العاصمة أمستردام. وربما تكون هذه هي الحل المستدام لبعض الدول المعرضة لخطر ارتفاع مستوى مياه البحر بسبب الاحتباس الحراري مثلا.
خلاصة القول إنه على الرغم من نجاح الهولنديين تاريخيا في مواجهة الفيضانات إلا أن هذا لم يثنهم عن الاستمرار في الابتكار والبحث عن طرق أكثر فاعلية وأقل تكلفة للاستمرار في تفوقهم عالميا في هذا المجال. لم يركنوا إلى إنجازات أسلافهم بل طوروها وحسنوها حتى عدوا أهل السبق والريادة في كل أوجه التعامل مع المياه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي