السر الهولندي «2» .. العيش تحت البحر

ارتبط بعض الدول في أذهان الكثيرين برموز وعادات معينة فأصبح من الصعوبة بمكان الحديث عن البرازيل مثلا من دون ذكر سحر الكرة البرازيلية أو التمايل على أنغام السامبا أو الانتشاء برائحة القهوة البرازيلية. وكذا ارتباط فرنسا بالموضة فكأنما أحدهما تعريف للآخر. لكن لم ترتبط دولة برمز كما ارتبطت هولندا بالماء، لا يمكن الحديث عن تاريخ أحدهما دون التعريج على الآخر بل إن "أسماء" هولندا كلها مرتبطة بالماء أو مشتقة منه!
فكلمة هولندا Holland أتت من Holt Land أي أراضي الأشجار التي تزرع في المناطق القريبة من البحر. وهي تعرف أيضا ب Netherlands وتعني الأرض المنخفضة، حيث يقع ثلث البلد تحت مستوى سطح البحر والثلث الآخر عند مستوى سطح البحر. فعند نزولك في مطار "سخيبول" في أمستردام فأنت في الواقع تكون قد "نزلت" خمسة أمتار تحت مستوى سطح البحر. بل إن أمستردام نفسها ــــ وهي مدينة بنيت على أرض مستصلحة ـــ تعني سد نهر أمستل Amstel Dam. وبسبب هذا الانخفاض فالخطر الأكبر الذي يتهدد الهولنديين هو الغرق سواء جراء فيضان البحر أو نتيجة الأمطار والسيول والأنهار. ولهذا يردد الهولنديون أن جزءا كبيرا من أموالهم ينفقونه بأيديهم لإبقاء أقدامهم جافة. بل إن الحكومة الهولندية قد تخفض ميزانية أي قطاع حكومي إلا القطاع المسؤول عن صيانة وتشغيل السدود والقنوات المائية.
علاقة الهولنديين بالماء قديمة قدم البلد نفسه وهي علاقة في "مد وجزر" دائمين. السؤال البدهي هنا هو كيف تمكن الهولنديون من تفادي الغرق ولمئات السنين في بلد يقع تحت مستوى سطح البحر وبلد تسقط عليه الأمطار بكثافة عالية في حين تغرق بلدان كثيرة "في شبر مية"!هذا ما سنتحدث عنه في هذا المقال والمقال المقبل.
الحل كان في ثلاثة عناصر رئيسة وهي تمثل في مجملها رموزا هندسية ترمز بشكل صارخ إلى التقدم الهولندي. الرمز الأول هو في القنوات المائية الكثيرة جدا والمنتشرة في كل المدن الهولندية تقريبا. وهي قنوات لتجميع المياه وتصريفها في البحر لحماية المدن من فيضانات الأمطار والأنهار. هذه القنوات التي تشتهر بها هولندا بنيت لتصريف المياه بالدرجة الأولى ثم كسد دفاعي أمام الغزاة ــــ ولهذا تسمى Gracht الهولندية وهي مشتقة من المقابل الإنجليزي Grave أي القبر. التحدي الأكبر لم يكن في حفر مئات الكيلومترات من هذه القنوات بل في توجيهها للبحر. في جميع بلدان العالم، مياه البحر تقع في مستوى أقل وبالتالي تتوجه الأمطار للبحر بفعل الجاذبية، لكن في هولندا الجاذبية ستؤدي إلى غرق المدن فكان لا بد من "رفع" المياه إلى أعلى: إلى البحر وهنا يأتي الرمز الهولندي الثاني وربما الأشهر عالميا: الطواحين الهولندية.
قام الهولنديون بضخ المياه تدريجيا إلى الأعلى عبر هذه الشبكة المعقدة من القنوات بمضخات تحركها الطواحين المعروفة ـــ التي بلغ عددها عشرة آلاف في القرن السادس عشر! أما الآن فتم استبدال الطواحين الهوائية ــــ التي بقي بعضها كمتاحف مفتوحة ـــ بمضخات تعمل بالديزل والكهرباء. حاليا يتم ضخ أكثر من خمسة تريليونات جالون من الماء سنويا إلى البحر وهي كمية كافية لتغطية استهلاك مدينة نيويورك من الماء لمدة عشر سنوات! وهكذا فإن أشهر معالم هولندا السياحية "الطواحين الهوائية والقنوات المائية" ما هي إلا وسائل دفاعية ضد الغرق.
الرمز الهندسي الثالث هي السدود الترابية Dijkes التي لم تستخدم لصد البحر فقط بل لغزوه. فنصف هولندا تقريبا هو أراض تم غنمها من البحر. ففي الشمال وعبر آلاف الكيلومترات من السدود وأنظمة التصريف المتطورة، تم عزل البحر تماما وإنشاء بحيرة داخلية تغذي الشمال الهولندي وتسمى آيسيل في المشروع العملاق المعروف بأعمال البحر الداخلي Zuiderzee Works. هذا العزل أدى أيضا إلى استصلاح نحو 1650 كيلو مترا مربعا من الأراضي "أي ضعفي مساحة البحرين" في بلد يعاني شحا كبيرا فيها ــــ هولندا في المركز الـ 14 كأكثر الدول كثافة سكانية في العالم. لم ينجز هذا العمل بين ليلة وضحاها بل استمر نصف قرن من عشرينيات القرن الماضي حتى عام 1975. هذا المشروع الذي جاء نتيجة لفيضانات 1916 عد إحدى العجائب الهندسية في وقته وسببا في حماية العاصمة أمستردام من الغرق.
وبسبب الخبرة الهولندية المميزة في مواجهة الفيضانات، لم يكن عجبا أن استعانت بها الحكومة الأمريكية لتقييم الضرر بعد إعصار كاترينا الشهير وإعادة تحصينات مدينة نيو أورليانز في اعتراف واضح بعلو كعب المهارة الهولندية.
خلاصة القول هو أنها ورغم تعرضها لكثير من الفيضانات خلال تاريخها الطويل، إلا أن هولندا لم تستسلم للطبيعة ولم تحبط من موقعها الجغرافي الصعب بل كانت تتعلم من كل فيضان لتحسين دفاعاتها المائية. منذ مئات السنين رأى الهولنديون أن مواجهة البحر أمر لا مفر منه فحفروا القنوات وبنوا الطواحين وأنشأوا السدود. ويبدو أنهم انتصروا في حربهم هذه وإن منوا بهزائم محدودة إلا أنهم تعلموا الدرس وتطوروا في أساليبهم حتى تسيدوا العالم في هذا المجال. لم يكتف الشعب الأطول في العالم بصد البحر بل نجحوا في غزوه واستأثروا بجزء منه استصلحوه وأقاموا عليه أراضيهم. كثير من الدول نجح في التغلب على ظروفها الطبيعية الصعبة، فاليابانيون مثلا نجحوا في إقامة الأبراج الضخمة في منطقة زلازل نشطة وكذلك الهولنديون نجحوا في إقامة مدن تحت مستوى البحر. الإرادة والتخطيط فالعمل الجاد هي أدوات النجاح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي