شذوذ الحرية
الحرية هي القيمة العليا التي تحفظ للإنسان كرامته. فمن أجل الحرية ناضلت الشعوب والأفراد وكتب المفكرون وقادة الرأي. سقط على مذبحها ضحايا كثيرون وسجن وعذب وطورد وشرد آخرون. غير أن معنى الحرية يعاني على الدوام التباسا في تعريفها وحدودها ومجالاتها، فاليساريون ربطوه بديكتاتورية الطبقة العاملة، والليبراليون ربطوه بالاستقلال الفردي.. قاد اليسار بنسخته الشيوعية الشعوب إلى القهر الاجتماعي. وقادت الليبرالية إلى تبريرية فلسفية مفرطة "الأقرب سوقطائية" عمادها الخلاص الشخصي على حساب المجتمع!
نظر فريدرك إنجلنر في كتابه "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" إلى أن الأسرة مؤسسة برجوازية. وهذا وصف اقتصادي أسقط من حسابه الهالة القدسية عنها. كما تطرفت الليبرالية إلى حد "تجيير" المجتمع برمته لحق الفرد بذاته للتمتع بأي ميول أو مزاج خاص به. وكان قد قال بذلك أشهر مفكري الليبرالية جون ستيورات مل في كتابه "الحرية" في منتصف القرن الـ 19 حتى أنه لم يفته أن يشير إلى الحق في المثلية الجنسية.. (موضوع هذا المقال). واحتج لهذا الحق بالإحالة إلى التاريخ بالقول: إن القمار والخمور والدعارة موجودة في سياقه الطويل، وإن من العبث إنكارها وتركها تمارس دورها في غفلة من القانون، وإن منعها وتجريمها لن يفيد شيئا لأنها ستمارس حضورها ولو في الظلال، وإن من الأجدى عدم إهمالها، بل على الدولة أن تتدخل لتنظيمها والتصريح لها.
اليوم أصبح الزواج المثلي "رجل مع رجل أو امرأة مع امرأة" علامة "تفوق حضاري" في الغرب تتبارى دوله في استصدار الشهادة لها في تميزها بالدفاع عن "حقوق المثليين!" ومعظمنا شاهد كيف ظهر باراك أوباما رئيس أعظم دولة في العالم وهو يباهي (حتى في زيارته الأخيرة لإفريقيا الجائعة) بأن بلاده قد منحت الحق الشرعي للمثليين في الزواج ويحثهم على الشيء نفسه.
لقد دارت معارك صاخبة حول قضية الشذوذ الجنسي، وترافع عنها علماء نفس واجتماع وقوى بشرية وحقوقيون وأطباء وساسة ومفكرون وكتاب وفنانون وصحافيون من الجنسين، وسيقت تبريرات من باب الشفقة والإنسانية ومن باب الحقوق الطبيعية والبيولوجية وملكية الجسد واحترام الرغبات ومن باب العدالة والسلم الاجتماعي.. إلى الحد الذي جعل وثيقة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة تجرم التمييز الجنسي ضمن مبادئها!
وأنا هنا لست بصدد مناقشة ذلك.. بقدر ما أريد التأكيد على أن هذا "الحماس!" للمثلية الجنسية ما كان له أن يصل إلى هذا المستوى من الشيوع والتبني له لولا سببين رئيسين:
الأول: اقتصادي.. فقد أصبحت تجارة الجنس تجارة تدر بلايين الدولارات، وبالتالي فحوافز تعظيم مداخيل هذه التجارة تقتضي إزالة أي معوق ديني أو أخلاقي أو اجتماعي أو حقوقي أو سياسي يحول دون ذلك، ولهذا جند أنصارها أنفسهم للدفاع عن المثلية وابتكروا لها أنواع الآليات النظرية والتطبيقية التي تضمن تعظيم المداخيل منها.. فاكتظت الفضاءات الاجتماعية الغربية بدور المثليين جنسيا وبنواديهم وبحوانيتهم وبمجلات وصحف وكتب وأفلام خاصة بهم وصناعات وملابس وعقاقير وأدوية وأدوات ومساحيق زينة وعمليات تجميل.. أما مع الإنترنت فحدث ولا حرج.. وقد شكلت هذه في مجملها مصادر للثروة الاقتصادية القائمة على المثلية ومظاهر الإباحية الأخرى.
هكذا تحولت هذه المثلية إلى قطاع استثماري له منظروه ومحاموه وله شركاته التي لا تدافع فقط عن مصالحها وإنما تورط "الدخل الوطني" به باعتباره قطاعا لا سبيل إلى الاستهانة بعوائده الاستثمارية وبضرورة الحفاظ عليه وتنميته.
ولأن هذا البعد الاقتصادي للمثلية يقتضي الدعاية والترويج.. فقد تم توظيف الثقافة والإعلام لتسويغها وتكريسها.. ففي الثقافة وجدنا كيف تم تسليط الضوء على مشاهير وعباقرة الفلاسفة والمفكرين والفنانين والكتاب والعلماء بالتركيز على أنه أو أنها كانوا من ذوي الميول المثلية.. وتم استدراج أسماء لامعة من غابر التاريخ حتى اليوم بما يوحي للمتلقي بأن للعبقرية والنبوغ علاقة وطيدة بالمثلية الجنسية.
كما تزايدت الجرأة بالتصريح في فضاء الإعلام بالمثلية حتى كاد الأمر يصبح سمة على مدى التحضر والمدنية جعلتنا نسمع ونشاهد فنانين ورياضيين وكتاب ومفكرين يتحدثون بما يشبه المباهاة، ليس فقط بأنه مثلي الجنس وإنما لأن صديقها أو صديقته مثلي أو مثلية.. وطبعا فالمستفيد من كل هذا الطبل والزمر للمثلية هو الاقتصاد القائم عليها.
ثانيا: سياسي .. وهو مترتب على البعد الأول.. فشركات لها هذا الثقل الاقتصادي وجمهور موجود في التركيبة الاجتماعية هذا مطلبه.. جعل السياسيين "أفرادا وأحزابا" يخضعون أيضا إلى الانحراف وراء نفعية ذاتية تتمثل في الحرص على كسب هؤلاء إلى جانبهم وإدخالهم في أولويات حملاتهم الانتخابية لكسب الأصوات.. وقد رأينا كيف أن استمالة المثليين بدأت على نحو من التدرج.. من التلويح للسماح لهم بالعمل هنا أو هناك، إلى إعطائهم كامل الحقوق بما فيها تبني الأطفال لتكوين "أسرة!".
لقد كان الحديث في السابق عن المثلية يدور تحت عنوان "الشذوذ الجنسي" لكن "انتزاع" المثليين لحقوقهم، أحال كلمة "الشذوذ" إلى قائمة الممنوعات لتحل محلها "المثلية" ولا غير!
فإلى أي مصير تقاد البشرية في مسار "شذوذ الحرية" هذا؟ وأي أسرة ستكون الأسرة في المستقبل؟ خصوصا حين ينشأ طفل بين امرأتين "سحاقيتين" أو بين رجلين "لوطيين"؟ ألا يعني ذلك أن نمط الأسرة المقدس إلى الخراب، بل الانقراض إذا ما تم التمادي في هذا الاتجاه؟ فضلا عن أن أمراضا نفسية عصبية مرعبة ستنجم عند أطفال الأسر المثلية؟ وفوق ذلك كله ضرب عملية الإنجاب والتناسل البشري في الصميم؟ أم أن شذوذ الحرية هذا سيقود إلى إنجاب البشرية في المعامل والمختبرات.. وإلى بشر من بنوك نطف العالم المثلي؟ إنها أسئلة يتهرب منها المثليون وتجارهم والساسة، لكنها أسئلة جوهرية مفزعة.. فهل يعيد قادم الأيام هذا العالم إلى صوابه؟!