وفاة نابليون .. فان جوخ .. وبنجلادش

في السبعينيات من القرن الماضي وبينما كانت بنجلادش تعاني مشكلات اقتصادية واجتماعية عويصة، ظهرت إلى الوجود معضلة أشد خطورة. في ذلك الوقت، كانت مياه الأنهار هي المصدر الأساسي للشرب في البلاد. ولم تكن لدى بنجلادش بنية تحتية جيدة لتجميع ومعالجة مياه الصرف فكانت تلك المياه الملوثة تلقى في الأنهار ذاتها التي تستخدم للشرب. أدى هذا التلوث لمياه الأنهار إلى انتشار أوبئة فتاكة كالكوليرا وغيرها، التي حصدت عشرات الآلاف من الأرواح (بعض الدراسات قدرت عدد الوفيات بين الأطفال فقط بربع مليون في السنة في تلك الحقبة). استدعى ذلك الحكومة البنجلادشية المغلوبة على أمرها إلى طلب العون من الخارج وتحديدا من الأمم المتحدة والبنك الدولي. كان السبب لهذه الأمراض واضحا للعيان لكن المشكلة كانت في إيجاد حل مناسب تستطيع الحكومة والشعب الفقير ماديا تحمله. لم يكن بمقدور الحكومة بناء شبكة كبيرة لتجميع مياه الصرف الصحي ومعامل لمعالجتها قبل إلقائها في مياه الأنهار أو البحر. لذا كان الاقتراح بتغيير مصدر مياه الشرب من الأنهار – سهلة التلويث- إلى المياه الجوفية – الأبعد عن التلوث -. بدا الحل ممتازا وقليل الكلفة فالمطلوب هو حفر الآبار فقط واستخدام الماء المتدفق من غير خوف.
لكن وبعد مرور بضع سنين بدأت تظهر بوادر كارثة لم يعرف لها التاريخ مثيلا. بدأ الكثير من السكان يشتكون من أعراض غريبة تبدأ من اسوداد الأصابع والإسهال الشديد وتلون الجلد وضعف في الجسم حتى القيء وفقدان الشعر فالغيبوبة ثم الموت. حار الأطباء جوابا، فالأعراض لم تظهر في منطقة واحدة أو في فئة معينة من السكان حتى تتم محاصرتها. بدا أن الجميع مصاب بهذا الداء الغامض. بعد مدة اتضح أن العامل المشترك الوحيد بين المصابين هو أنهم يستخدمون الآبار للشرب – لا الأنهار. لكن ماذا حدث؟ وكيف يمكن للماء أن يكون بهذه الخطورة؟ ألم يكن التحول من ماء الأنهار إلى ماء الآبار هو للحد من الأمراض؟
استغرق الأمر بعض الوقت للتعرف على القاتل الجديد والحقيقة أنه لم يكن سوى قاتل قديم بُعث من جديد. هذا القاتل الذي تم التعرف عليه لاحقا لم يكن سوى الزرنيخ ( Arsenic)- أحد أشهر السموم في التاريخ. تذكر كتب التاريخ تفضيل استخدامه من قبل الكثير من (النبلاء) وأفراد الأسر الحاكمة في أوروبا والصين الذين كانوا يستعجلون الجلوس على كرسي الحكم ولذلك سمي الزرنيخ بمسحوق التوريث. يعتقد أيضا أن الزرنيخ استخدم لقتل إمبراطور فرنسا نابليون بونابرت في منفاه في جزيرة القديسة أيلينا، فقد أظهر تحليل شعر نابليون معدلات زرنيخ أعلى بـ130 مرة من المعدل الطبيعي. وإن كانت دراسات أخرى نفت قصة التسمم وعزت وجود الزرنيخ بتراكيز عالية إلى الاستخدامات التجارية الكثيرة للزرنيخ في ذلك الوقت كاستخدامه في مواد التجميل والأصباغ. استخدام الزرنيخ في الألوان والأصباغ وبكثرة أدى –في اعتقاد بعض المؤرخين- إلى أمراض الرسام الهولندي الأشهر فنسنت فان جوخ العصبية أواخر حياته التي دفعته إلى الانتحار. كذلك لقي سيمون بوليفار – قائد ثورات التحرر الشهير- وجورج الثالث وغيرهم من الشخصيات التاريخية حتفهم بسبب التسمم بالزرنيخ.
عودا على بدء، كانت المياه الجوفية في بنجلادش تحتوي وبصورة طبيعية على مادة الزرنيخ الشديدة السمية. لم يكن أحد يعلم ذلك أو يشك فيه. وعندما قررت الحكومة البنجلادشية التغيير من المياه السطحية إلى الجوفية، لم يتم عمل الدراسات والتحاليل الكافية لبحث قرار حيوي ومهم كهذا، بل كان قرارا متسرعا وارتجاليا مع الأسف. ولذلك كانت هذه النصيحة غير المدروسة- من الأمم المتحدة والبنك الدولي- سببا في أكبر وأسوأ عملية تسمم جماعي في التاريخ وأصبحت بنجلادش عندها كالمستجير من الرمضاء بالنار.
تحدثنا فيما سبق عن خطورة تلوث مصادر الشرب عالميا وذكرنا عديدا من أمثلة تلوث بعض المصادر كمياه الأنهار أو المياه الجوفية. العامل المشترك في تلك الحوادث هو أنها جميعها من صنع الإنسان وجشعه ولا مبالاته. إنما – وفي حالات قليلة كالحالة البنجلادشية- يكون مصدر التلوث هو الطبيعة نفسها. فبعض مصادر المياه تحتوي وبشكل طبيعي على مواد سامة ومضرة كما هو الحال مع الزرنيخ في المياه الجوفية في بنجلادش أو مع الفلورايد في المياه الجوفية في القرن الإفريقي.
تلوث المياه الجوفية بالزرنيخ ليس حكرا على بنجلادش فقط، فهناك أيضا وجود للزرنيخ بشكل طبيعي في المياه في جنوب شرقي آسيا، منغوليا، الأرجنتين والغرب الأمريكي. ووفق دراسة حديثة، يعتقد بوجود أكثر من 100 مليون شخص مصاب بالتسمم بالزرنيخ الموجود في مياه الشرب عالميا – وإن بدرجات متفاوتة.
الخلاصة أنه وكما يمكن أن تتلوث مصادر الشرب بالمواد الكيميائية من المصانع والمناجم، فإنها قد تتلوث بوجود مواد سامة بشكل طبيعي. والمطلوب في هذه الحالة وقبل التسرع في استخدام أي مصدر مائي هو القيام بتحليل كامل ودقيق ودوري لمياه ذلك المصدر. عند التأكد من وجود مادة سامة – كالزرنيخ - فبالإمكان تغيير مصدر الشرب أو إيجاد طرق معالجة (لفلترة) وإزالة هذه المادة. فالزرنيخ والفلورايد وغيرهما يمكن إزالتهما وبفعالية بطرق بسيطة جدا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي