هل الأمم المتحدة ضد العرب؟
كان من أبرز أسباب فشل "عصبة الأمم"، أول منظمة أمن دولية، هو عدم قدرتها على منع الحروب حيث حلت محلها بعد الحرب العالمية الثانية هيئة الأمم المتحدة.. وقد بدا في مستهل عملها السعي فعلا إلى إحلال السلام والأمن في العالم، واستطاعت تحقيق بعض الخدمات الثقافية والتربوية والإنسانية والاقتصادية وغيرها.
غير أن هذه الهيئة الدولية ولدت بآلية ضعف خطيرة تمثلت في الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن "الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا" المسلحة بحق النقض لقراراتها "الفيتو". الذي كان بمثابة "كعب أخيل" لها ما سمح لهم بالعربدة في مصائر الدول والسلام والأمن في العالم حسبما تقتضيه مصالحهم.
وقد ذقنا نحن العرب ــ بشكل خاص ــ الأمرين من هيمنة الأعضاء الدائمين على المقاليد في هذه الهيئة وعلى منظماتها.. وكان "الفيتو" على الدوام لنا بالمرصاد.
ولعل أبرز وأطول محنة عايشناها هي تسويغ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وجنوح هذه الهيئة الدولية للمماطلة في قرارات كثيرة، تتعلق بحق الشعب الفلسطيني في استعادة أرضه، وعدم الحد من معاناته المريرة القتل والتشريد والدمار، والسكوت على الغطرسة الإسرائيلية والعنصرية التي بلغت حد إعلان يهودية الدولة الإسرائيلية واعتبار القدس عاصمة أبدية لها!
ومع الأخذ في الاعتبار كل ذلك، وما لحق بالعرب من إجحافات أخرى من هذه المنظمة الأممية. يجدر بنا أن ننظر إلى ما يؤكد هذا في غضون السنوات الأخيرة.. ومنها على سبيل المثال.. وضع العراق تحت الفصل السابع منذ غزو أمريكا له بذريعة مزيفة اسمها القضاء على أسلحة الدمار الشامل وزعم تحويله إلى جنة ديمقراطية، ثم تركه نهبا للعنف والإرهاب، بعد تفكيك أوصال الدولة فيه وعلى رأسها حل جهازي الجيش والأمن، والقذف به تحت الأنياب الإيرانية.
الأمر نفسه حدث مع ليبيا.. فبعد أن سقط نظام الطاغية القذافي الذي كان لأكثر من 40 عاما يتمتع بمحاباة الغرب له إلى حد تدليله بالحفاوة به ناصبا خيمته في ربوعه.. إذ ما أن أنهت حملة "فجر الأوديسا" مهمتها ووضعت ليبيا تحت الفصل السابع حتى تم تركها سلخانة رهيبة تعيث فيها الميليشيات والعصابات دون التدخل للجمها ونزع السلاح السائب من يديها، وإهمال مسألة إنزال قوات دولية برية تنفذ استحقاق الفصل السابع.
وقل مثل ذلك في سورية حيث تستر الخط الأحمر الأمريكي بفيتو روسيا والصين، ولم يشفع مؤتمر جنيف والحديث عن الفصل السابع في إنقاذ الشعب السوري من مجازر بشار وحملات الإبادة من قبل قاسم سليماني وحزب الله اللبناني وفلتان داعش والنصرة وما ترتب على ذلك من ويلات.
أما آخر "مآثر" الأمم المتحدة للعرب فهو القرار (2216) الصادر بشأن الحرب في اليمن تحت الفصل السابع "أيضا".. فقد ترك الحبل على الغارب للحوثيين وعصابة علي عبد الله صالح، وبدا للعالم وكأن هؤلاء هم من "يملي" على الأمم المتحدة شروط تنفيذ هذا القرار.. وبدلا من أن تبادر الأمم المتحدة إلى تنفيذ القرار الذي ينص على وضع قوات دولية على الأرض اليمنية وإرغام الحوثيين وعصابة صالح على الانسحاب من المدن التي احتلوها، وإطلاق سراح السجناء، وتسليم الهيئات الحكومية للسلطة الشرعية، تركت لهم الأمم المتحدة إدخال القرار (2216) في حالة كوما، وأن يسخروا مكوكيات المبعوث الدولي "ولد الشيخ" للهاث وراء خطاهم، مثلما كانوا قد استدرجوا المبعوث السابق "جمال بن عمر" لكي يشرعن لهم انقلابهم!
وفي المقابل كان الغرب قد هرول بالأمم المتحدة في حربه ضد يوغسلافيا السابقة، لكي تكون غطاء للقضاء على ميلوسوفيتش وكاراديتش وغيرهما والقذف بهم في قبضة المحكمة الدولية وإرساء السلام في غضون شهور لأن في ذلك ما يحقق مصالح تلك الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن.. طبعا.
قد تفوح من هذا السياق رائحة نظرية المؤامرة.. في أن الغرب وأمريكا على وجه الخصوص تتخذ من الأمم المتحدة عبر مجلس الأمن أداة لها في تنفيذ ما تريده من أهداف.. إلا أن الأمر ليس على هذا النحو عند النظر إليه من زاوية الظروف الدولية التي نشأت فيها الأمم المتحدة.. فقد ولدت الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية التي أسفرت عن انقسام العالم إلى معسكرين غربي وشرقي ونذر حرب باردة شاهدها "جدار برلين"، كما أفضى الوضع الجديد إلى أن الدول الكبرى المنتصرة في الحرب سعت للاحتفاظ بدور الوصاية على السلام والأمن العالميين فجاء الاتفاق بينها على حق "الفيتو" كنوع من التسوية، أملته طبيعة تلك المتغيرات والقواعد الجديدة للصراع على النفوذ والمصالح.. كذلك كانت الأوضاع الدولية مزعزعة بدمار الحرب العالمية الثانية، وبالذات أوروبا وآلية إعمارها بقانون مارشال، فيما كان كثير من البلدان الآسيوية والإفريقية حينذاك مستعمرا.
وهكذا.. في ظل غياب الدول الآسيوية والإفريقية، وانهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ودمار المدن الأوروبية، وانشغالها بتضميد جراحها، أتيح للدول الكبرى المنتصرة في الحرب صياغة مجلس الأمن على هذا النحو، الذي لم تبد سوأته إلا بعد فوات الأوان.. ولم تنجح معه حتى الآن كل الدعوات إلى إعادة إصلاح الأمم المتحدة..
وبالتالي تجرعنا، نحن العرب، نقيع حنظل هذه الهيئة الأممية مرارا.. وسيظل حالنا معها على ما هو عليه ما لم يملك العرب قرار صناعة مصيرهم بأيديهم.. أما التطلع إلى إعادة صياغة الأمم المتحدة ليصبح "الفيتو" حقا مشاعا لكل أعضاء الأمم المتحدة، فذاك كما يبدو مجرد مجازفة خيالية، ليس أشد منها مجازفة سوى تخيل العالم دون الأمم المتحدة رغم عيوبها!