الوطن .. «مفرد بصيغة الجمع»

تمر الشعوب باختبارات صعبة تمتحن فيها مصداقية المواطنة وعمق الولاء والانتماء للوطن.. يواجه هذا الامتحان على مستوى الفرد، في منولوج داخلي ذاتي يكاشف فيه نفسه، بعيدا عن تأثير الآخرين، وبما لا يفتح بابا للادعاء أو الممالاة. ومن المؤكد أن هذه المواجهة مع الذات في علاقتها بالوطن تختلف عناصر مدخلاتها من شخص لآخر.
فالوطن، كان منذ ما قبل التاريخ جغرافيا، وبشرا، وطريقة حياة تتصل بالمعتقد والسلوك، لكن الوطن، مع نشوء الدولة الحديثة، تحول إلى دولة وما يمكن وصفه بأنه: "مفرد بصيغة الجمع" المواطن في الوطن يكتظ بمواطنيه وتسكنه جغرافيته، حيث كل ذرة هي سيادة روحية ثقافية تاريخية فيه.. لا تقبل إلا التماهي معها، بلا تمايز ولا تمييز، ليكون الوطن مواطنا والمواطن وطنا.. هذا في قلب ذاك والعكس صحيح.
هذا الدمج العضوي بين الوطن والمواطن هو ما يشكل الهوية التي أفرزها الوعي الحضاري الحديث من واقع العيش المشترك.. بالروح وبالمادة على حد سواء، الأمر الذي يترتب عليه تلقائيا.. العيش بالحقوق والواجبات اللذين يكرسان ويعمقان ما بات يعرف بـ "المواطنة".
من هنا، فإن العلاقة بين الوطن والمواطن ـــ أي المواطنة ـــ تسمو على الحالة الانتهازية الذاتية أو المصلحة البرجماتية الخاصة، إنها ليست ترنيمة وجدانية تصدح بناء على امتيازات خاصة فحسب، فإذا لم تتحقق أدرك النشاز هذه الترنيمة... كما أن المواطنة، في الوقت نفسه ـــ ليست أيضا محوا للذات أو إلغاء لها أو إقصاء.. فلا وطن بدون ذوات ولا ذوات بدون وطن.. واختلال هذه العلاقة التفاعلية مسؤول عنها الطرفان معا.
هذه المسؤولية هي فعل التنمية، التي محورها المواطن والمستفيد الأول من ثمارها.. بكل ما تعنيه التنمية من بنية نظامية إدارية وأمن وعلم وعمل وحياة اجتماعية.. وكلما ازدهرت التنمية عنى ذلك نجاحا في إدارتها وتشغيلها، وبالتالي ضبطا لإيقاع الحقوق والواجبات لا تكون فيه الذات خارج المجموع، ولا يلغي المجموع فيه الذات.
لقد كان الفشل الذريع في صناعة التنمية في عدد من البلدان العربية جراء تسلط الإدارات العسكرية والحزبية الدموية عليها هو ما ضرب العلاقة التفاعلية بين الوطن والمواطن بطاعون التخلف ثم العنف.. فقد تم إقصاء أو تهميش الذات المواطنة تحت وابل قصف الشعارات والمعارك نكشوتيه على حساب الحقوق بحجج مقارعة الاستعمار والإمبريالية والصهيونية والأعداء المتربصين بالوطن والخونة والعملاء.. إلخ، فإذا ببلدان كانت تغص بالثروات والخيرات نهبا للجوع والفقر وصدقات الغوث الشقيقة والصديقة، فضلا عن الرعب والاستبداد والإرهاب والتشرد والمنافي ودخول بعضها في ويلات حروب أهلية وانهيار للوطن.
نحن في الخليج لسنا إقليما مثاليا، لكن صناعة التنمية فيه أخذت بشعوبه في غضون عقود قلائل إلى صعيد المدنية وحضارة العلم والعمل، صعودا من أزمته الشح.. فيما فشلت التنمية هناك.. فعلى سبيل الإشارة.. كانت إحدى أبرز كوارث القومية العربية أنها أمعنت بالغلو فقسرت مناطق وإثنيات وطوائف في بلدانها على التنكر لحقوقهم وامتيازاتهم الثقافية والروحية.. حتى إن هذا الشعار القومي نفسه تم استغلاله من قبل بعض الأقليات الطامعة في السلطة فانخرطوا بكثافة في تلك الأحزاب "القومية" وأبرز مثال صارخ على ذلك تجلى في حزب البعث السوري، ففي غضون سنوات استحوذ العلويون على مقاعد الحزب ومناصب الدولة وبالذات الجيش، ما أدى في النهاية إلى خضوع سورية لقبضة ضباط في معظمهم من العلويين وبقية القصة معروفة.. انتهت إلى الوضع المأساوي الذي تعيشه سورية اليوم.. أما البلدان العربية الأخرى كالعراق وليبيا والسودان فترنح بعضها في موجات عنف وبعضها الآخر أدركها الربيع العربي وما زالت تلعق جراحها.
وحوار المواطن (المنفعل) مع ولي العهد في إشراك الدولة بمسؤولية العملية الإرهابية في القديح لمجرد أنها حدثت هو منطق مأزوم طالما هو يفصل بين الدولة والوطن، وكأن الدولة لا تجد قداسة وجودها أصلا إلا في وجود هذا الوطن وبأن الأولويات القصوى عندها حفظ أمنه واستقراره فوق كل ذرة من ترابه.. ولم يقل أحد من أهالي الشهداء من المواطنين الذين سقطوا ضحايا الإرهاب في السنين الماضية أو الراهنة ولا الدول الأجنبية ممن فقدت رعاياها مثل هذه المقولة المنفعلة.. فضلا عن أن هذا المنطق المأزوم يفترض أن للدولة قدرات خارقة تحيط بكل شيء وذاك شأن الخالق وحده سبحانه وليس شأن أي دولة أو بشر مهما بلغا من العلم والقوة!!
إن هذا التشوش في الموقف المؤدي إلى فك الارتباط العضوي بين الدولة والوطن يفقد الهوية (الوطنية) مصداقيتها وما من مواطن في العالم إلا ويعبر عن وطنه باسم الدولة فهما وجها السيادة الوطنية ولا مغالطة في ذلك، خصوصا حين يكون هذا (الوطن) كالسعودية لم تسلك على مدى تاريخها إلا مسارا مدنيا غردت فيه ثمار التنمية جيلا فجيل في سعي متنام لتكريس الحقوق والواجبات في سياق التجربة والخبرة.. تصحيح هنا وتعديل هناك.. ومن يقول غير ذلك ليس إلا مجافيا للحقيقة!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي