عبد الله بن عبد العزيز .. المواطن الملك

رحل الملك عبد الله بن عبد العزيز - تغمده الله بواسع رحمته - والناس داخل السعودية وخارجها تلهج له بالدعاء، ويملأ نفوسهم الحزن على فراقه، ففي كل زاوية من زوايا الوطن والأمة له أياد بيضاء وأفكار إبداعية وقرارات جريئة وحاسمة، فبرامج ومشاريع وخدمات وسياسات وإنفاق سخي على المواطن، همه صناعة دولة الرفاهية ورفع مستوى التحضر وتطوير ونشر التعليم والصحة والسكن وكل مرافق الحياة والعيش الكريم. إن ما يميز الملك عبد الله ليس فقط تلك المشاريع النوعية الضخمة التي نهضت بالتنمية في وقت قياسي وكأنه يسابق الزمن، ولكن قربه من الجميع بعلاقة حميمية فطرية نابعة من صدق النية والمشاعر والحب العميق لأبناء شعبه. لم يكن متكبرا أو متعاليا أو متسلطا أو ظالما وإنما رحيم عطوف أبوي حان يحب الخير ذو مشروع تنويري ورؤية واضحة لما يجب عمله. أسلوبه القيادي الأبوي جعله أكثر قربا لأفراد شعبه فلا حواجز رسمية أو عقدا نفسية كان عاشقا لأهله ـــ وجميع المواطنين أهله ـــ يقف على مسافة واحدة منهم ويبذل قصارى جهده من أجلهم. لم تكن تلك عواطف شكلية لحظية أو للاستهلاك الإعلامي، وإنما حقيقية عميقة وصادقة أحسها الناس وبادلوه ذات المشاعر والحب. ولقد ترجم تلك المشاعر الجياشة نحو شعبه بمشاريع على كل شبر من هذه الأرض الطاهرة بدءا من المشاريع العملاقة في الحرمين الشريفين إلى مشاريع تنموية في جميع مناطق السعودية، فقد كان نهجه التنموي يعتمد على التنمية المتوازنة والمستدامة وأكبر دليل على ذلك المدن الاقتصادية والجامعات التي لم تعد تخلو منطقة منها، هذا فضلا عن النهوض بقطاعات الصحة والتعليم والإسكان والبرامج الاجتماعية وغيرها. لقد كانت فترة حكمه ـــ يرحمه الله ـــ عشر سنوات سمان سعى خلالها سعيا حثيثا وعلى جميع الصعد في دفع جهود التنمية والنماء والترابط واللحمة الشعبية إلى آفاق أوسع. لقد كانت نفسيته الصحيحة وحبه الجارف للناس مصدر الإلهام وبوصلة صناعة القرار ورؤية الأمور على حقيقتها. قربه للناس وتلمسه لاحتياجاتهم قادته إلى زيارة الأحياء الفقيرة ليضع سكانها على أولوية العمل الحكومي ويلفت انتباه المسؤولين إلى أن المواطن هدف التنمية ولا غير. لقد كان توجيهه الدائم والمستمر وفي كل مناسبة للوزراء والسفراء وجميع المسؤولين بالاهتمام بالمواطن بكلمات صادقة ولهجة قوية وحازمة لا ينقصها العتاب واللوم أمام الملأ، ليعلم الناس أن المسؤول الحكومي إنما عين في منصبه من أجلهم ولتحقيق مصالحهم وتلبية احتياجاتهم.
كان - رحمه الله - نموذجا ومثالا لما يقول، فتصرفاته وقراراته تعكس منظومة القيم التي ينادي بها. هذا هو السر وراء قوة تأثيره فهو يفعل ما يقول ويقول ما يفعل ولا يخشى في الله لومة لائم ولا النمط الرتيب لما اعتاد عليه الناس، فهو ينشد الحق ويتحرى العدل ويبحث عن حلول جديدة. لقد علم ـــ يرحمه الله ـــ أن قدره قيادة الأمة، فرعى الأمانة حق رعايتها، فلا يرضى بالظلم من كائن من كان ولا يحابي أحدا على حساب المواطن، فحق المواطن حق مقدس لا يجب المساس به ليست الحقوق الذاتية المباشرة فحسب، وإنما حتى الحقوق غير المباشرة مثل حق التعليم الجيد والخدمة الصحية الجيدة وتوفير السكن وباقي الخدمات الحكومية الأخرى. هذا التفكير التنموي كان شغله الشاغل وربما استعجل الناس النتائج فكان أسرع من استعجالهم، فمشروع جامعة الملك عبد الله ومدينة الملك عبد الله الرياضية في جدة وقطار الحرمين أمثلة على حرصه ومتابعته لإنهائها في وقت قياسي وبمعايير عالية. لقد كان ـــ يرحمه الله ــــ عمليا حتى النخاع بقدر محبته لشعبه وحرصه على تأدية الأمانة. إن أسلوبه القيادي الخير والرخاء والاستقرار الذي تنعم به السعودية في فترة كانت تعاني دول المنطقة ويلات الأنظمة الفاسدة والقيادات المتسلطة التي أهملت شعوبها وطغت وتكبرت فثارت وهاجت، وسموه خديعة ووهما ربيعا، على الرغم من الدمار الذي لحق بها. ولا شك أن ما تتمتع به السعودية من أمن واستقرار وازدهار امتداد لنهج الحكمة الذي يتميز به النظام السياسي السعودي، الذي أسس له الوالد المؤسس الملك عبد العزيز ـــ يرحمه الله ـــ على مبادئ الشريعة الإسلامية العظيمة والعادات والتقاليد العربية الأصيلة. لقد تمتعت السعودية وعلى مدى ثلاثة قرون بالاستقرار والنماء لأن نظامها من نبت هذه الأرض الطيبة والناس يعيشون كأسرة واحدة تربطهم علاقة فطرية متينة بين الحاكم والمحكوم لأن الحاكم منهم وإليهم.
وما يجبر مصاب الوطن في فقيد الأمة أنه يتولى الأمر من بعده سلمان بن عبد العزيز ذو الخبرة الواسعة والتجربة العميقة في الحكم المحلي، ولذا هو قريب من المواطن يعرف خبايا هموم معيشته اليومية وما تحتاج إليه المدن والمحافظات والمناطق من الخدمات والمشاريع. ليس ذلك فحسب، وإنما تطوير العمل المؤسسي المحلي من خلال تطوير نظام للإدارة المحلية. إن حنكة وخبرة الملك سلمان في الشؤون المحلية ستسهم بمشيئة الله في قيادة السعودية نحو آفاق أوسع من العمل التنموي، فهذه الرياض العاصمة تحولت في زمن قياسي إلى مدينة تضاهي كبريات المدن العالمية، لذا فهي أكبر شاهد ودليل ناصع على قدرته القيادية والإدارية المتميزة. لقد رافق الملك سلمان ملوك هذه الدولة وكان المستشار الشخصي لكل واحد منهم لما يتمتع به من دراية ومعرفة في الشؤون المحلية وثقافة عالية وإلمام بالمستجدات وعلاقة متميزة مع جميع الأسر السعودية. ويحظى الملك سلمان بشعبية كبيرة لقربه من المواطنين بخطاب شعبوي مبني على علاقة تقليدية حميمية يتحدث بلغتهم ويتفهم تطلعاتهم وطموحاتهم ويقدر كبيرهم ويستمع إلى صغيرهم.
أعان الله الملك سلمان على حمل الأمانة، وسدد خطاه ووفقه للخير، وأيده بنصره وتأييده، وجعله خير خلف لخير سلف، ونفع به الإسلام والمسلمين، ومتعه بالصحة والعافية، ورحم الله أبا متعب فقد كان نعم القائد ونعم الوالد، ولن أقول لا تنسوه من صالح دعائكم لأن الجميع يذكره بالخير ويلهجون له بالدعاء في وسائل التواصل الاجتماعي .. إنه بحق المواطن الملك. ولا يسعني هنا إلا أن أتقدم بخالص العزاء للملك سلمان وولي عهده الأمين الأمير مقرن وأبناء الفقيد والأسرة المالكة وجميع المواطنين، وأن يتغمد الله الملك عبد الله بواسع رحمته ويلحقه بالصالحين. "إنا لله وإنا إليه راجعون".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي