الدبلوماسية الشعبية .. أهداف محددة

لا شك في أن الدبلوماسية الشعبية وتطبيقاتها ومفاهيمها تظل واسعة وفضفاضة، كما أنه لم تتبلور بعد ماهية الممارسات التطبيقية الأفضل للممارسة المحترفة للعمل الدبلوماسي الشعبي، وللقائمين بالاتصال الذين من المفترض أن يكون لديهم فهم واضح للقضايا، والسياسات، والجمهور المستهدف من حملة معينة؛ إذ يجب النظر إلى مجموعة متنوعة من المتغيرات، سواء أكانت داخلية أم خارجية، فالدبلوماسية الشعبية فعلٌ لا يحدث في فراغ، فحتى أفضل الدبلوماسيين الشعبيين احترافية سيثبت عدم جدواه وعدم فاعليته إن لم تكن لديه سياسة واضحة جيدة يتم العمل على تعزيزها، ويسير في ضوئها.
إلا أن ماثيو ولين Matthew Wallin قد توصل مع مجموعة من الباحثين في أغسطس 2012 إلى عشر قواعد أساسية تعزز نجاح الممارسات الدبلوماسية الشعبية متى ما تم أخذها في الحسبان في أثناء عمليات البحث والتخطيط والتنفيذ، وقد توصلوا إليها عبر سلسلة من دراسات الحالة، والتجارب على الممارسين للدبلوماسية الشعبية، حيث قاموا بتطوير هذه القائمة من أفضل الممارسات لها.
ويوصي ولين الممارسين وصناع السياسات بضرورة تكوين فهم أفضل للخطط، وما يمكن، وما لا يمكن تحقيقه، في مراحل التخطيط لحملات الدبلوماسية الشعبية، وتتلخص هذه المبادئ العشرة، بتصرف، فيما يلي:
-1 فهم الأهداف السياسية:
إذ يجب أن تكون الدبلوماسية الشعبية مؤازرة للأهداف السياسية وداعمة لها، فهل ساعدت رسالة الدبلوماسية الشعبية على تحقيق النتائج السياسية المرجوة؟ هل الغرض من هذه السياسات واضح ومفهوم؟ وهل السياسة الاستراتيجية المستخدمة صحيحة لتحقيق الأهداف؟ وهل استراتيجية الاتصال المعتمدة تعكس الأهداف السياسية؟ ففي بعض الأحيان، قد يكون الهدف السياسي شيئا بسيطا مثل: "الدخول في الأنشطة التي تحافظ على علاقة قوية بين دولة وشعب دولة أخرى". وفي أحيان أخرى، قد يتطلب الأمر التأثير في الجمهور المستهدف لاتخاذ مسار أكثر إيجابية من الناحية العملياتية على الأرض. ولذلك لا بد من فهم مستفيض للهدف وللجمهور المستهدف، مع وضع عدة طرق ومسارات يمكن سلوكها لتحقيق هذه الأهداف، فكل حالة فريدة من نوعها، وهو ما يأتي في صميم الدبلوماسية الشعبية التي تساعد على فهم الجمهور المستهدف، وتظهر بوضوح التحديات والمشاكل والقيود التي قد تحد من تنفيذ سياسات معينة أو تعيق اتخاذ قرارات سياسة ما.
2 - تكوين الهدف للعمليات الاتصالية، وتحديد قياس النجاح والفشل:
فالدبلوماسية الشعبية الجيدة يجب أن تحمل أهدافاً محددة، وهذا يعني وضع الأهداف الاستراتيجية على النحو الذي يمكن من توجيه جهود الاتصال نحو تحقيقها. وهو ما يعني ضرورة النظر إلى أبعد من ملء الفراغ في محتوى الرسالة الاتصالية، أي النظر إلى عواقب هذا المحتوى، وما إن كان من الضروري في المقام الأول ملء هذا الفراغ املأ، فإن كنت لا تعلم ما الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه من اتصالك، فإنك لن تتمكن من تبرير هذا الاتصال، أو على العكس من ذلك، فقد تتسبب في تفعيل خطر جسيم، يتمثل في التشكيك من وجود مثل هذا الفراغ، بما يخالف الأهداف الاستراتيجية، ولذلك لا بد من وضع نظام معياري لقياس الأنشطة والممارسات، بحيث تتسم هذه المقاييس بأن تكون مناسبة وحاسمة في تحديد إلى أي درجة يتم التوصل إلى تحقيق الهدف، وهذه الخطوة هي أصعب مراحل عمليات التخطيط في الدبلوماسية الشعبية، وتلعب استطلاعات الرأي دورا بارزاً في ذلك، مع الأخذ في الحسبان أن الآراء قد تكون في كثير من الأحيان متغيرة وغير ثابتة، كما أن عمليات الدبلوماسية الشعبية غالباً ما تتصف بطول المدى، ما يعني أن الاستطلاعات الآنية السريعة قد لا تعكس الواقع.
3 - تحديد الجمهور المستهدف:
فمن النادر في بلد ما أن يعتبر المواطنون ككل كتلة متجانسة؛ إذ عادة ما يكون سكان هذا البلد أو ذاك مجموعة متنوعة من الأعراق واللغات والخلفيات، والأيديولوجيات السياسية، وهو ما يجب أن يؤخذ في الحسبان.
إذ لا بد من بذل جهد حثيث للحصول على فهم دقيق للجمهور المستهدف، للفروق بين السكان، وتصوراتهم نحو العالم، أو نحو السياسة المتبعة في البلد صاحب النشاط، وهل الدبلوماسية الشعبية تؤثر فيهم بالفعل.
إضافة إلى ذلك، فإن فهم الجمهور يسمح بتحديد أفضل وسائل الاتصال التي ينبغي استخدامها، سواء وسائل الإعلام الجديدة، أو التقليدية، أو عن طريق وسائل أخرى.
كما يمكن إشراك فئات محددة من الجمهور المستهدف للمساعدة على فهم أكبر، ولإيجاد القواسم المشتركة والعمل عليها والانطلاق منها.
4 - الاستماع:
يُغفل الكثير من السياسيين والممارسين للدبلوماسية الشعبية عنصر "الاستماع"، أو يعطونه قيمة أقل مما يستحق، بداعي أن الأساس هو البحث عن تحقيق المصالح الوطنية.
لكن الحقيقة هي أن السياسات الخارجية التي يتم اتباعها أو الإعلان عنها لا يتم تنفيذها عبر الفراغ، وإنما تجاه دول وشعوب، وبالتالي فإن فاعلية هذه السياسات، ومدى نجاحها على الأرض، يتوقفان على كيفية تلقفها، ومدى ملاءمتها وقبولها لدى الطرف الآخر، فقد تكون لتلك السياسات المتبعة، بداعي المصلحة الوطنية، عواقب وخيمة على هذه المصالح، أو قد تكون محصلتها على المدى البعيد عكسية وسلبية جداً، حتى إن تحققت بعض النجاحات على المدى القصير، نتيجة تفاهمات معينة بين الحكومات، وعليه فإن عنصر الاستماع يعتبر أبرز عناصر نجاح الممارسة الدبلوماسية الشعبية، التي تعد بدورها الممهد لاتخاذ قرارات سياسية معينة، أو الداعم لنجاحها. و"الاستماع" لا يتم فقط من خلال استطلاعات الرأي والدراسات الاستقصائية والتحدث مع الشعوب الأجنبية، بل يتجاوزه إلى محاولة تحقيق فهم أفضل للبيئة الأجنبية المعنية، من خلال فهم السياق، والاتجاهات، والحاجات الشعبية ودوافعها لدى الدولة المستهدفة، بما في ذلك الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والخصائص التاريخية والثقافية، في محاولة لتحليل وفهم هذه البيئة الشعبية، وكيف يمكن أن تؤثر السياسات الخارجية التي سيتم اتباعها في هذه الشعوب، كيف ستتلقفها؟ وما ردة الفعل المتوقعة؟ وهل تلامس حاجات لديهم، حسية كانت أم معنوية؟ ترى هل تلتقي مع الجو العام؟ وهل تمت تهيئة الجو العام لتلقيها وقبولها بالشكل المأمول؟
وهنا يبرز عنصر "المشاركة" من قبل هذه الشعوب الأجنبية– بشكل غير مباشر- في صياغة السياسات الخارجية المراد اتباعها وصياغة الرسالة الاتصالية، وبالتالي مصداقية هذه الرسالة وموثوقيتها.
قد يُظن للوهلة الأولى أن في ذلك تدخلا في الشأن السياسي وفي قرارات الدولة وسلطتها، لكن الواقع هو أن الاستماع والإنصات الجيد يجعل من السهل إيجاد القواسم المشتركة، والانطلاق منها لتحقيق المصلحة الوطنية بما لا يتعارض– وإن شكلياً – مع مصالح تلك الشعوب، بل على العكس، تفهم هذه السياسات في سياق المصالح الوطنية لتلك الشعوب، بما يرفع من احتمالية نجاحها على الأرض، وتلقيها للدعم اللازم من هذه الشعوب. ذلك يعني أن الإنصات الجيد ما هو إلا "تكيف تكتيكي لتحقيق الأهداف الاستراتيجية". نكمل الأسبوع المقبل، فإلى اللقاء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي