ضرب الودع والتنجيم في داعش

منذ أصبحت داعش حديث الإعلام والناس، وذعر العالم من وحشية ودموية عنفها في جز الرؤوس والافتراس الجنسي والسطو على العباد والبلاد لم تكف التحليلات حول منشئها، من يقف وراءها؟ من يمولها وكيف انتهى الحال إلى أن يتحالف الغرب والعرب لقتالها؟
ولاحقاً .. دارت التساؤلات حول مغزى التصريح الأمريكي بأن القضاء على داعش سيستغرق سنوات ويتطلب أموالا بينما يتذكر العالم أن القضاء على نظامي ميلوسوفيتش في يوغوسلافيا السابقة وصدام حسين في العراق لم يستغرق - رغم جيشيهما المسلحين القويين - سوى شهور؟ وهل أن التصريح كان إشارة إلى خطة مبيتة أم هو من باب التهويل من جهة والتبرير المسبق من جهة أخرى فيما لو فشلت أمريكا في القضاء بسرعة على داعش كفشلها وتورطها الطويل في القضاء على القاعدة وطالبان؟!
كل الأسئلة السابقة وكثير غيرها عن داعش لم تجد من ضاربي الودع والمنجمين من يفك طلسمها.. فهناك من هرول إلى أرشيف الإسلام السياسي وسار به إلى الوراء ليقف به عند تخوم أول ثلاثينيات القرن الماضي ليبرهن على أن جذور داعش موصولة بالإخوان المسلمين ثم الجهاد الإسلامي فالقاعدة.. ومع أن ذلك تحليل من قبيل تفسير الماء بعد الجهد بالماء، فهو أيضا مضلل يغفل حركة التاريخ غاسلا أيادي الدول من تبعات ما حدث قافزا فوق الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المزرية التي تجرعتها الأجيال العربية واستثمرتها جماعات الإسلام السياسي حتى أسفرت عن هذا الكابوس الداعشي.
هناك أيضا من لا يزال يصر على أن "اليد الخفية" للمؤامرة رتبت السوق السياسي لبروز داعش، فهي إما ابنة النظام السوري أو العراقي أو إيران أو تركيا أو أمريكا.. إلخ، أما واسعو الأفق في التحليل المؤامراتي فيميلون إلى وضع كل هذا البيض في سلة واحدة!
من المؤكد أن تلك التحليلات أو حتى التخمينات، ليست جميعا ضرب ودع وتنجيما.. إذ ما من شك في أن هناك إرثا "إخوانيا" وهناك وشائج للمؤامرة.. لكن ذلك لا يحل اللغز ولا يفك الطلسم، خصوصا وقد استحوذت داعش على الثروة والأراضي وتزايد الأتباع وباتت واقعا فاقعا مرعبا يمتد على تراب بلدين ويهدد الجوار.. دولة فوق الدول وسلطة فوق السلطات!
هذا الوضع الجيوسياسي لداعش وهذا الكيان العسكري الاقتصادي لها وما يكتنف تنظيمها وقيادتها من غموض وسرية أحاط داعش بهالة أسطورية أشبه ما تكون بالهالة التي أحاطت بجماعة الحشاشين وزعيمهم حسن الصباح في القرن الخامس الهجري.. ولا سيما في استراتيجية الاغتيال والإرهاب التي عرفوا بها وفي مواجهتهم لدول عديدة آنذاك كالفاطميين والأيوبيين والعباسيين والسلاجقة والصليبيين والخوارزميين والزنكيين إلى أن قضى عليهم هولاكو في فارس 1256م ثم الظاهر بيبرس في الشام عام 1273. وبالطبع ليست هذه الهالة من قبيل الإعجاب بداعش وإنما تعجباً من اكتساحها المفاجئ في مدة وجيزة وعربدتها بهمجية مفرطة دون أن يقوى على ردعها أحد حتى الآن، ويرتبك أمامها الجميع؟!
إن داعش - مع الأخذ في الاعتبار لما سبق - ليست سوى إفراز تعقيدات فشل النظام العربي أو (اللانظام).. فهي ابنة تناقضات تلك التعقيدات التي أحسنت استغلالها باللعب على تضارب المصالح الدولية والإقليمية والمحلية.. لبست لها أقنعة تناسب كل حالة وعززت ذلك بالقيام بأعمال مقاولة بالباطن لهذا الطرف أو ذاك، على أكتاف جنود جمعتهم الضغينة والمرارة من الإقصاء والتهميش، بعضهم (كما بات معروفا) عساكر نظام صدام بمختلف الرتب ممن قذفهم الجنرال بريمرز للمذلة والهوان بعد حله الجيش والجهاز الأمني العراقيين وبعضهم الآخر مرتزقة مسخهم فشل النظام العربي فاستدرجتهم داعش بإشباع غرائزهم في المتعة والرفاه في الدنيا ووعد جنة الخلد في الآخرة!
وليس في الأمر ما يثير الاستغراب في ظاهرة هذا التهافت للانضواء تحت لواء داعش، فالخطاب العربي الرسمي، سواء من قارع الإسلام السياسي أو لم يقارعه، ظل يعيد تدوير الخطاب الإسلامي نفسه ويزايد عليه بالمنافسة فيه وتشجيع الكتاب الإسلامي وأشرطته ومنابره وفعالياته وبرامجه، فكرس لدى الأجيال الشابة قطيعتها مع المستقبل وكفرها بالواقع تعلقا ببريق ذلك الفردوس المفقود .. ما جعل الأرض خصبة لتنظيمات لا ترى سوى واجب الخروج على الأهل والدولة.
وحتما ستنتهي داعش كما انتهى غيرها، فلا يذكر التاريخ أن للعصابات مكانا فيه، غير أنه ما لم يكف النظام العربي الرسمي عن محاباة الإسلاميين فلن يحول ذلك عن ولادة تطرفات أخرى .. فالتاريخ لا يكرر نفسه وإنما يثأر لها ممن لا يصدقون أنه يسير إلى الأمام!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي