Author

مقدسات التغيير

|
لو أردنا الاعتبار بدروس التاريخ، فسوف نعرف أن الأزمات الكبرى شكلت نقطة انبعاث للمجتمعات المغلوبة، يوم حظيت بشجاعة التحرر من الغرائز البدائية وقيود العادة. كان آرنولد توينبي، وهو أبرز مؤرخي القرن العشرين، قد اعتبر الصراع محركا رئيسا للتحولات الحضارية وحركة التاريخ بشكل عام. الأمم التي تواجه تحديات وجودية تبدع وسائل جديدة لاستيعاب التحدي ومواجهته. صنف توينبي تلك التحديات إلى ثلاثة مستويات: تحد ضعيف لا يثير اهتمام المجتمع، وتحد جارف يقوده إلى الاستسلام وربما تدمير الذات، وتحد متوسط القوة يطلق طاقة حيوية جديدة، تقاوم عوامل الوهن والهزيمة، فيشكل ـــ بالتالي ـــ نقطة انطلاق إلى مسار جديد نحو التقدم والقوة. مناسبة الكلام هو التحولات الهائلة التي تواجه العرب هذه الأيام، وتحمل في مجموعها صفة التحدي الوجودي، على النحو الذي شرحه توينبي. كشفت هذه التحولات عن نقاط ضعف كبرى في البنية الاجتماعية/ السياسية لجميع المجتمعات العربية، لكنها كشفت أيضا عن نقاط قوة عظيمة الأهمية، لا يصح إغفالها أو تهوين أهميتها. ويهمني في هذه الكتابة التنبيه إلى ما أظنه شرطا ضروريا لتحديد اتجاه "الاستجابة للتحدي". ألا وهو توافر أيديولوجيا التغيير. تتألف أيديولوجيا التغيير من مجموعات مقولات ميتافيزيقية (نتبناها لأننا نريدها وليس بالضرورة لأنها ثابتة علميا أو تجريبيا". تتمحور هذه المقولات حول ثلاثة مبادئ ينبغي رفعها إلى درجة القداسة: وأولها تعزيز الإيمان بأننا ــــ كمجموع ـــ قادرون على حل مشكلاتنا بأنفسنا، قادرون على منافسة الآخرين والتفوق عليهم، وإننا ـــ كأفراد ــــ قادرون على تجاوز خلافاتنا والانصهار في بوتقة فكرة قائدة، هي فكرة التقدم. المبدأ الثاني: هو ثنائية المتعدد/ الواحد وخلاصتها أن كل مواطن فرد، رجلا أو امرأة، مختلف عن الآخر في عقله أو فكره أو تطلعاته أو همومه، وأن هذا التنوع في الأفكار والتعبيرات والقدرات والتطلعات يقود طبيعيا إلى فتح مسارات كثيرة، يجب تأطيرها على نحو يجعلها روافد تصب في المجرى الرئيس لنهر التغيير وتسهم في حركة التقدم. المبدأ الثالث يتناول موضوع التغيير، ويتلخص في إصلاح سياسي باتجاه توسيع ومأسسة المشاركة الشعبية في الحياة العامة، وتحول اقتصادي باتجاه التركيز على الصناعة ولا سيما الصناعات الأساسية والتحويلية، وتحول اجتماعي محوره صون الحريات الشخصية والمدنية لجميع الأفراد. زبدة القول إن الأزمات الهائلة التي نمر بها هذه الأيام يمكن أن تعصف بوجودنا كله "وقد شهدنا بدايات هذه الكارثة في أكثر من دولة مجاورة"، كما يمكن أن تشكل مفتاحا لعصر جديد وتاريخ مختلف، نحقق فيه أكثر آمالنا. أعلم أن أحدا لن يختار الكارثة، لكن اختيار البديل رهن بالاستعداد لدفع ثمنه السياسي والثقافي والنفسي. ولهذا حديث آخر ربما نعود إليه لاحقا.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها