«هنري»: الذي لنا ضرائب على الأراضي البيضاء .. عودا على بدء
كان البروفيسور المتخصص في التمويلات العقارية يتحدث عن طرق عمل دراسات الجدوى المالية للمشاريع العقارية، كان يضرب مثالا مبسطا عن مشروع سكني صغير مفترِضًا أن تكلفة الأرض تعادل 20 في المائة من إجمالي سعر بيع المنزل. لم آخذ الرقم على محمل الجد وافترضت - بدوري- أنه اختار هذا الرقم لمجرد تسهيل العملية الحسابية، لا أكثر، اقتربت منه بعد انتهاء المحاضرة متسائلا عن النسبة الحقيقية لتكلفة الأراضي بالنسبة للمشاريع السكنية في الولايات المتحدة. أبدى استغرابه لسؤالي ثم قال: "كما ذكرت لكم في المحاضرة، 20 في المائة هي تكلفة الأرض السكنية إلى سعر المنزل في أمريكا، قد تصل في بعض الأحيان إلى 22 في المائة، وقد "تتضخم" أسعار الأراضي وتصل إلى 25 في المائة لكن لا يحدث ذلك كثيرا" أوضحت له أنه في السعودية -خاصة الرياض- تصل تكلفة الأرض إلى 50 وربما 60 في المائة من سعر الوحدة السكنية. أردفت متسائلا ما إذا كان عدم وجود نظام ضرائب هو السبب وراء ارتفاع أسعار الأراضي، "لا شك أن عدم وجود أي تكلفة سنوية على صاحب الأرض يجعله على غير عجلة من أمره لعرضها للبيع؛ أنصحك بالقراءة عن نظرية "هنري جورج" المتعلقة بهذا الموضوع" قال ذلك قبل أن يستأذن مغادرا القاعة واعدا إياي بمناقشة الموضوع باستفاضة في وقت لاحق.
لم يكن الاقتصادي الأمريكي هنري جورج "1839-1897" الذي كان وراء ما صار يعرف لاحقا بـLand value tax، يعلم أن دعواته إلى فرض الضرائب على الأراضي البيضاء ستبلغ مدًى بعيدا للدرجة التي تسعى فيها إليزابيث ميجي "1866 - 1948" إلى ابتكار لعبة "مونوبولي" الشهيرة وذلك للمساهمة في نشر المبادئ التي آمن بها هنري والتي تحذر من خطورة احتكار الأراضي على الاقتصاد والسلم الاجتماعي. كان هنري يؤمن أن الأرض -وليس غيرها- هي ما يجب أن تكون مصدر الضرائب الرئيس. كانت الضرائب في الولايات المتحدة -وما زالت في أكثر الولايات- هي الضرائب على الدخل أو ضرائب المبيعات. يرى هنري أن الضريبة يجب أن تكون على الأرض وليس ما يبنى عليها. كان يؤمن أن الضرائب على الأراضي البيضاء هي أحد السبل للتوزيع العادل للثروة وعدم استئثار طبقة معينة بامتلاك الأرض.
تعالت الأصوات في الولايات المتحدة وبريطانيا خلال الأعوام القليلة الماضية وذلك لتغيير كامل في سياسية الضرائب ورفع الضرائب على الأراضي البيضاء وجعلها حجر الأساس وتقليص وربما إلغاء أنواع الضرائب الأخرى. من أهم مميزات الضرائب على العقارات والأراضي البيضاء بشكل خاص أن تحصيلها أسهل بكثير من ضرائب المبيعات أو ضرائب الدخل؛ فالعقار لا يمكن نقله إلى حسابات خارج الدولة، وبذلك تصعب عمليات التهرب الضريبي على العقار، بينما يعتبر التهرب الضريبي على الدخل والمبيعات أكثر سهولة حتى في الدول المتفدمة في مجال ملاحقة التهرب الضريبي كأمريكا وبريطانيا وذلك لسهولة نقل الأموال في حسابات خارجية "تقدر مصلحة الضرائب في بريطانيا الضرائب التي لم يتم تحصيلها العام الماضي بـ 69 مليار جنيه استرليني".
لكن رغم أن الضرائب على الأراضي البيضاء ليست مرتفعة في الولايات المتحدة، إلا أنه هناك مجموعة من العوامل حجمت من أسعار الأراضي وجعلت القيمة الكبرى للتطوير "سكنيا، تجاريا.. أو غيره" الذي يتم على الأرض. التطوير والقيمة المضافة إلى المشروع ما يدر الأرباح للمالك وليس اكتناز الأرض وانتظار تضخم الأسعار.
إضافة إلى الضريبة السنوية التي تدفع سنويا إلى امتلاك الأرض "تختلف بشكل كبير من ولاية إلى أخرى"، فهناك أيضا تكاليف أخرى تدفع عند بيع أو شراء العقارات كعمولات الوسطاء وتكاليف التأمين على صك الملكية "حيث تضمن شركة التأمين ملكية البائع للعقار وعدم وجود أي نزاعات عليه" وتكاليف الطرف الثالث الذي يشرف على إتمام الصفقة بين البائع والمشتري. هذه التكاليف التي تبدأ من 5 في المائة وتصل إلى 8 في المائة من قيمة الصفقة لها أثر كبير في الحد من عمليات المضاربة على العقارات والأراضي بشكل خاص ويجعل قرار الشراء أو البيع مكلفا على الطرفين. في السعودية، كل ما يتم دفعه هو 2.5 في المائة فقط من قيمة العقار وهو الأمر الذي يسهل من تداولات العقارات ويرفع من تكلفة تملك الأرض على من يرغب في امتلاك مسكن بسبب المضاربات على البيع والشراء.
من أهم العوامل التي تجعل من التطوير على الأرض (وليس الأرض نفسها) السبب الرئيس لتحديد قيمة المشروع هو الإمكانية التي تتيحها أنظمة البلديات في الولايات المتحدة لتعديل وتغيير استخدام الأراضي. فلو كانت هناك أرض تجارية، فنظريا يمكن تعديل الاستخدام إلى صناعي، تعليمي، مكاتب أو غير ذلك. اعتماد التعديل والتغيير من قبل البلديات ليس مضمونا على كل حال "سأتحدث في مقال لاحق باستفاضة عن استخدام الأراضي وطرق تعديلها"، لكن ما يستحق الإشارة إليه في هذا السياق أن مسألة استخدام الأرض هي استخدام تجاري لا يعني بالضرورة أن المطور لا يملك إلا أن ينشئ عمارة تجارية. فلربما كانت دراسة السوق تظهر أن الاستخدام الأفضل للأرض هو مجمع مكاتب أو مستودعات أو فندق أو ربما شقق سكنية أو فلل. لذلك، السؤال الأول الذي يطرحه المطور على نفسه: ما الاستخدام الأفضل لقطعة الأرض هذه؟ بعد أن يتمكن من الإجابة على هذا السؤال يستطيع حينها أن يحدد القيمة الحقيقية للأرض التي تمكنه من جني الأرباح المتوقعة.
لذلك، تمثل نسبة الـ 20 في المائة كتكلفة لقيمة الأرض بالنسبة لسعر المنزل الوضع الصحي والطبيعي للسوق العقارية. فلو افترضنا أن منزلا قيمته مليون ريال في أمريكا، فإن سعر الأرض المطورة والمخدومة لهذا المنزل هي 200 ألف ريال فقط وباقي الـ 800 ألف ريال هي تكاليف بناء المنزل شاملا أرباح التطوير وهو ما يشكل القيمة المضافة الحقيقية التي تمت على الأرض. تزداد الحسرة عند معرفة أن المنازل في الولايات المتحدة يتم بناؤها -غالبا- من الخشب وهي مادة متوافرة ورخيصة بالنسبة للخرسانة المسلحة. لذلك ستتآكل نسبة الـ 20 في المائة أكثر لو كان المنزل من الخرسانة المسلحة، حيث سترتفع تكلفة البناء ويرتفع سعر بيع المنزل "قد يصل إلى 1.2 مليون ريال"، بينما تبقى كلفة الأرض كما هي 200 ألف ريال وبذلك تنخفض نسبتها إلى تكلفة الأرض نحو 17 في المائة وهذه هي النسبة الحقيقية التي يجب أن نقارنها مع ما يحدث لدينا في السعودية وخاصة الرياض. فعند شراء فيلا بقيمة مليون ريال في الرياض، فإن سعر الأرض لا يقل عن 500 ألف ريال وهو ما يمثل 50 في المائة من سعر المنزل.
انحرف الهدف من امتلاك الأراضي في السعودية من غرضها الرئيس وهو المساهمة في التنمية والبناء وإيجاد فرص سكنية وزراعية وصناعية إلى مجرد وسيلة لاكتناز الأموال ومضاعفتها لشريحة محدودة في المجتمع.
يبدو واضحا أن عملية رفع تكلفة "كنز" الأراضي البيضاء وإجبار الملاك على البيع أو تطوير الأراضي من خلال فرض الضرائب السنوية، إضافة إلى إعادة تنظيم عملية البيع وشراء وتداول الأراضي وجعلها أكثر تكلفة مما سيدفع بخروج المضاربين من السوق العقارية هي السبيل الذي سيكبح جماح تضخم أسعار الأراضي السكنية ويعيدها إلى مستوياتها الطبيعية. من المهم جدا تغيير الوضع الراهن الذي يحقق فيه ملاك الأراضي البيضاء أرباحا سنوية هائلة من دون أي مجهود ومن دون أي ضريبة. التطوير وإعمار الأرض هو ما يجب أن يكون المصدر الحقيقي للثروة وليس غير ذلك.