جشع الطغاة وهروب الاستثمارات الأجنبية من روسيا

وصف المؤرخ العربي المسعودي الروس بصفات عدة، كان من ضمنها اتصافهم بنقض العهود. ولا يمكن بالطبع تعميم هذا على كل روسي، فالشعب الروسي مثل بقية شعوب الأرض فيهم الصفات الحسنة والسيئة، لكن تصرفات زعماء الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي وروسيا الحالية ونقضهم المستمر للعهود والمواثيق يؤكد هذه المقالة التي تنطبق على كثير من تصرفاتهم. وجاء احتلال روسيا شبه جزيرة القرم مؤكداً لمسيرة روسيا الطويلة في نقض المواثيق، وسعيها المستمر للتوسع والاستيلاء على أراضي جيرانها. وكانت روسيا من الدول الأربع المشاركة على توقيع اتفاقية ضمان حدود أوكرانيا، التي تنازلت بموجبها أوكرانيا عن سلاحها النووي قبل سنوات عدة. وطبخت روسيا مع حلفائها في شبه الجزيرة مسرحية استفتاء هزيلة شبيهة باستفتاءات طغاة العالم النامي (النائم). وليس من المتوقع أن يتوقف التمدد الروسي في أوكرانيا على شبه جزيرة القرم، خصوصاً أنها لم تواجه مقاومة تذكر من أوكرانيا ولا من الحلفاء الغربيين الذين لم يفعلوا شيئاً يذكر لثني روسيا عن غزوها شبه الجزيرة. وتحاول روسيا الاستيلاء على أجزاء من شرق أوكرانيا الذي توجد فيه أقليات روسية وصناعات أوكرانيا الثقيلة، ويعتبر أغنى نسبيا من غرب البلاد.
وتزيد مساحة روسيا على 17 مليون كيلو متر مربع. وتنعم روسيا بثروات ضخمة، ولهذا فإنها ليست في حاجة إلى مزيد من الأراضي أو الثروات، فهي ما زالت تبحث عن المستثمرين الأجانب لاستغلال ما عندها من ثروات. وتبرر روسيا استيلاءها على أراضي الغير بوجود أقليات روسية في هذه الأجزاء، لكنها تتناسى وجود قوميات وأقليات أخرى في مساحات شاسعة من روسيا، وكثير من هذه القوميات قوميات مسلمة حاربت منذ قرون للانفصال عن روسيا، لكن روسيا منعت انفصالها عبر مذابح تدمى لها قلوب البشر. إن المبرر الوحيد للاستيلاء على حقوق الآخرين من دون وجه حق ليس له دافع إلا الجشع والغرور ونرجسية الطغاة التي تبرر لهم سحق الضعفاء وإذلالهم. ولو تصرفت كل الدول كما تصرفت روسيا وأشباهها فإن مآسي العالم ستتضاعف وستختفي كثير من دول العالم وقومياته. وتتمتع روسيا بتفوق عسكري ساحق على أوكرانيا، ما ثبط أي سعي من أوكرانيا للرد على الاحتلال الروسي، كما سهل كثيرا اختفاء أي رد عسكري غربي من مهمة الروس. إن الغرور بالقوة والتفوق على أوكرانيا وغياب مخاطر الرد الغربي حيث وقعت ثلاث دول غربية رئيسة (من بينها أمريكا) على اتفاقية ضمان حدود أوكرانيا، هما العاملان اللذان دفعا روسيا للاستيلاء على شبه جزيرة القرم. ولم يبادر الغرب باتخاذ أي عمل عسكري، لأنه يرى أن أوكرانيا لا تستحق أي احتكاك عسكري مع الروس. كما لم يبادر الغرب إلى فرض أي عقوبات اقتصادية ذات جدوى على روسيا، حيث فرضت الدول الغربية عقوبات هزيلة ولا تأثير لها فعلياً على روسيا.
وتعتمد روسيا على تصدير المواد الأولية، خصوصاً موارد الطاقة، حيث تمثل صادرات النفط والغاز الطبيعي نحو 60 في المائة من إجمالي صادرات روسيا. وإضافة إلى ذلك تصدر روسيا العديد من المعادن والأخشاب والألماس وكثيرا من السلاح. وجاء الرد الاقتصادي الغربي هزيلاً بسبب اعتماد أوروبا وخوفها على إمدادات الطاقة، خصوصاً الغاز الطبيعي. ويقف ضعف الاقتصاد الأوروبي وتخوف الأوروبيين من المساس بالانتعاش الاقتصادي الضعيف وراء الرد الضعيف على تصرفات روسيا. ويقدر البعض أن مئات الآلاف من الوظائف قد تتأثر في ألمانيا وحدها لو حدثت قطيعة اقتصادية مع روسيا. كما يتخوف الأوروبيون من انقطاع إمدادات الغاز من روسيا، ما قد يرفع أسعار الغاز الطبيعي بقوة ويؤثر في الانتعاش الاقتصادي الهش في القارة العجوز.
من جهةٍ أخرى، من المتوقع حدوث تأثيرات جوهرية في الاقتصادين الروسي والأوكراني لاحتلال شبه جزيرة القرم، حتى ولو لم تتخذ إجراءات قاسية ضد روسيا. وقاد ازدياد حالة التوتر بين روسيا وأوكرانيا والتلويح بمزيد من العقوبات ضد روسيا إلى هروب كثير من الأموال من روسيا خلال الفترة الماضية، كما تسبب في تراجع معدلات صرف العملة الروسية وتراجع في معدلات الاستثمار. وسيقود هذا الهروب إلى تشدد واضح في السياسة النقدية الروسية للحد من تأثيراته في الاقتصادي الروسي. وسيقود هذا التشدد إلى التأثيرسلبا في النمو الاقتصادي الروسي ويقلل من نمو الوظائف. ومن المتوقع أن يتراجع نمو الاقتصادي الروسي بما لا يقل عن نقطة مئوية هذا العام والعام المقبل نتيجة لهذه الأزمة. وسيؤدي هذا التوتر إلى تراجع معدلات تدفق رؤوس الأموال الأجنبية والاستثمارات إلى روسيا ويرفع تكاليف الاقتراض على الشركات الروسية، ما سيولد المزيد من الضغوط الانكماشية على الاقتصاد الروسي. وقد يتعرض الاقتصاد الروسي إلى خسائر إضافية خلال سنوات عدة بسبب توجه الولايات المتحدة إلى تصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا وتوجه الأخيرة إلى تخفيف درجة اعتمادها على إمدادات الغاز الروسي والنفط الروسي. أما بالنسبة لأوكرانيا فمن المتوقع أن تحصل على قروض من صندوق النقد الدولي ولكن سيصاحب ذلك بعض الإجراءات القاسية على الشعب الأوكراني، التي من أهمها رفع سعر الغاز الطبيعي. وستحاول أوكرانيا الاستفادة من فتح أبواب الاتحاد الأوروبي أمامها وستحصل على الكثير من إعانات الاتحاد الأوروبي، التي تأمل أن تقلل من خسائر احتلال جزيرة القرم ومن تراجع أهمية العلاقات الاقتصادية مع روسيا. وعلى كل حال من المتوقع أن تمر أوكرانيا بفترة زمنية صعبة لسنوات عدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي