إدراك جوهر الحب عند الأم

الحب له تجليات كثيرة، يماثل الشفق وتعدد ظهوره ودرجات العمق في لونه ووهجات الضوء والنور منه.
إذ إن كل حب - للنفس - فيه نصيب! وللشهوة فيه حصة، وللجسد فيه قدر من المقادير. إلا حب - الأم - وحده فذاك حب لا مقابل يقابله إلا هو، ولا نصيب للنفس فيه إلا هبته، وليس - للأم - فيه من متعة إلا تجليه على أبنائها عاطفة، وحنانا، وفيضا طاهرا - مغتسل بارد وشراب.
هروب كينونة الذات إلى الآخر وذوبانها فيه، لا يحدث في الوجود إلا من خلال هروب ذات - الأم - إلى أبنائها فيتحول وعيها بذاتها إلى أبنائها فقط. وتنمحي ذاتها كليا في هذا التحول الغريب في منازل الحب وأنواعه.
لا تبصر جمالا لا يحضره، ولا تحس بسكون لا يشاركها فيه، ولا يكتمل وعيها بذاتها مع غيابه أو بعده مرحلة ذوبان "أرني انظر إليك" هي تعني في الدلالة: أجعل لنفسي وقلبي سببا أنال به النظر الدائم إليك أبدا سرمدا لا يغشاني مانع ولا يحول بيني وبينك حائل، أو يسقط ما بيني وبينك حجاب، هذه هي - الأم - ذاتها "كينونة تجلي الذات في المحبوب" هي محبة الأم وحقيقة حبها الذي يمثل سرا من أسرار الله في الخلق، ويمثل - صورة تجلي للرحمة الإلهية العظمى - في كائن بشري من أمشاج يبتليه ربهُ بالخلق والتطور طورا بعد طور حتى يتناغم بينهما "الأم والجنين" ذاك الحس الفريد كونيا، إذ يتحد النبض والنفس والشعور في تسع دورات قمرية تمثل في منازل الوعي - 90 عاما - كاملة من الحياة الزمنية الطبيعية؛ لأنها حياة تامة وكاملة دون نقص! وفيها من الشعور والوعي والإدراك ما لا يمكن حصره، ولا تتبع غوامضه، أو بلوغ كنه السر فيه.
وفي حب الأم لأبنائها.. هنا يقترب المخلوق في تساميه بالخالق، وهنا تقترب الصفات من الصفات، وهنا تقترب الأسماء من الأسماء الحسنى.
بين الأم وبين الله.. بين عالم الملك وبين عالم ملكوت الله! وهنا تتجلى لنا دلالة يهب الملك لمن يشاء.. أن الملك هو "قلب الأم" أيضا حيث امتلك سر كينونة الوجود في الخروج من الذات بكل ما فيها في لحظة تسامٍ لا يقدرها حق قدرها إلا من فهم الدلالات والمعاني والمفردات للأمومة وخطوات سيرها، ومنازلها، ومستقرها ومستودعها في علم الوجود والكون.
وللمرة الأولى في عالم الخلق، وفي الوجود الناقص، وفي منازل النقص والعدم وضآلة الزمان - تسعة أشهر - وضآلة المكان - الترائب - ومع تجلياته التسعة. وهي التجليات التي سأنشرها في الفصول المقبلة وهي ليست عنك ببعيد.
إذ يتمرد هنا - المخلوق العاجز والضعيف - "الأم" على ذاته الموغلة في الرغبة والملك والشهوة ببلوغ المرأة منزلة "الأمومة"، وهنا تتجاوز مكانها وزمانها وملكها، والجسد، والحرص كله، من أجل "المولود" و"الوليد" و"الولد". ويبدأ كل شيء في حياتها، سمائها وأرضها، باطنها وظاهرها، يشير إليه وحده في ظاهرة نادرة في الوجود وهي - الإماتة - للذات من أجل النشر في المولود.
شجرة الموز تهب حياتها إلى بناتها وتموت واقفة كي تظلل عليها من شدة وهجات الشمس، وهي على يقين أن سبب موتها هي عروق بناتها الممتدة إلى شرابها وطعامها فتموت راضية كل الرضا عن قاتلها الذي لا تتوقف عن عشقه وحبه والوله به. ولو قدر لها الحياة مرة أخرى فلن تكون نادمة في تكرار قصة هبتها الحياة لمن يهب لها الموت.
الأم بهذا تجربة وجودية قائمة بذاتها.. لا يمكن أن نتصورها دون هذا الوعي العميق بمكوناتها وبصفاتها الذاتية الخاصة، كما أن الشعور بها يظل دائما أعمق بكثير من الوعي بها عقليا.
وللحديث بقية.. إن شاء الله تعالى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي