التصنيم
في ثقافتنا العربية هناك نزوع مفرط لتمجيد أو تقديس الأشخاص والمنجزات والقيم، وما عدا ذلك يمكن أن نسميه ظاهرة ''التصنيم'' رغم أن الإسلام حمل معول تحطيم الأصنام، إلا أن هذه الظاهرة شقت طريقها إلى الرسوخ .. وقد عبر الشاعر عمر أبو ريشة عن ذلك في قوله: ''أمتي كم صنم قد سنه .. لم يكن يحمل طهر الصنم''.
ما زال يقال للطلاب منذ مقاعد الدراسة الأولى: هذا أكثر الأبيات غزلاً قالته العرب، أو أعظمها في المدح، أو الفخر أو الهجاء أو الاعتذار، كما يقال هذا أكرم العرب وذاك أدهى وذلك أشجع والآخر أحلم ... إلخ، وعند قراءة سيرة عالم أو شاعر أو قائد أو حاكم تجد المؤلف يجمع فيه كل الفضائل والمناقب لاغيا البشر جميعا إكراما لهذا المخلوق الاستثنائي، لمجرد أنه معجب به في أحسن الأحوال أو متملق له متهافت على مغنم أو خشية منه.
لا يتوقف الحال عند الأشخاص، إنما يشمل الأسرة والعشيرة والقبيلة والقرية والمدينة والبلد .. ويصل إلى حد ازدراء الآخرين حينا .. مثل قول عمرو بن كلثوم: ''ونشرب إن وردنا الماء صفوا .. ويشرب غيرنا كدرا وطينا'' وحينا آخر حد الخراقة والتهور كقول أبي فراس الحمداني: ''ونحن أناس لا توسط بيننا .. لنا الصدر دون العالمين أو القبر''.
وهذا الهوس اللامعقول في (إما كل شيء) (أو لا شيء) يقابله لا معقول آخر يبلغ حد الكذب على النفس أو مسخها، مثاله بيت شعري مشهور كثيرا ما يستشهد به للتعبير عن حب الوطن وأهله للشاعر اللبناني حليم دموس: ''بلادي وإن جارت على عزيزة .. وأهلي وإن ضنوا علي كرام''، فأي عز مع الجور؟ وأي كرم مع الحرمان؟ بل بلغ حد شطط اللامعقول إلى الاجتراء على الله سبحانه في قول ابن هانئ الأندلسي مادحا الخليفة الفاطمي المعز لدين الله: ''ما شئت لا ما شاءت الأقدار .. فاحكم فأنت الواحد القهار''.
يؤسس التصنيم منطقه الإقصائي، غالبا، على كون الفرادة ''الخارقة'' للممدوح صادرة بالأساس ''كابرا عن كابر'' فيما هو مجرد قول مرقع بزخرف البلاغة والاختلاق: وكم يتم تقديم علمائنا، قادتنا، أخلاقنا، قبائلنا، أسرنا، بلداننا منجزاتنا ومناسباتنا مسبوقة بـ (الأفضل) .. ''أروع، أنبل، أعظم، أعرق ... إلخ''، فيما غص تاريخنا بالانكسارات والصراعات والمآسي حتى في العصور الذهبية في دمشق وبغداد والأندلس من صراع الأمويين وبطش الحجاج، إلى تطاحن العباسيين ودموية السفاح وحتى سقوط الأندلس الذي نعته أم عبد الله الصغير - آخر ملوك الطوائف - ببكائيتها: ''ابك مثل النساء ملكا مضاعا .. لم تحافظ عليه مثل الرجال!''.
لم يكن تاريخ العرب وحده نزاعا للمبالغة وللتصنيم .. تواريخ الأمم كلها كانت مثقلة بالزهو والخيلاء أيضا، وكتب بالدم والقهر.. إلا أن ظاهرة تصنيمنا تاريخنا ورموزه لازمت غابرنا وتكرست في حاضرنا بينما كانت عند الأمم الأخرى مجرد ضرب من ذهنية أسطورية عابرة هيمنت على عقليتها في عصور ما قبل التاريخ كما في ملاحم هوميروس الإغريقي ''الألياذة ـــ الأوديسة'' و''ملحمة جلجا مش'' البابلية وغيرها لكن تلك الأمم بعد ما خرجت من ظلام العصور الوسطى لم تعد ظاهرة التصنيم نسقا فكريا يطمس ذهنها، إنما باتت مجرد تراث أنثروبولوجي فقد كسرت احتكار الأسطورة لعقلها وراحت تنحت بأداة العقل طريقها للتقدم بالتجربة ونسبية الأشياء وقابليتها للتطور فلا ''أفضل'' إلا وسيكون ما هو أفضل منه في الساعة اللاحقة .. إن لم يكن هنا فسيكون هناك!
منطق الأسطورة لا يزال يوجه ذهنيتنا .. يصدر معيارنا عن ذواتنا، فهي الحكم والحكمة، فما ثمة سوى (ذات) ترى الأشياء بلونين إما ''أبيض أو أسود'' .. افترست ''الذاتية'' فينا ''الموضوعية''.. لا نعبر عن رأينا إلا بقطع الطريق على غيرنا صارخين ''لا .. بالعكس'' ساحقين جملة وتفصيلا إمكانية أن يكون الآخر على حق ولو جزئيا .. بينما يقول غيرنا ''أجل .. أفهم ما تقول لكن ...''، ويا للفرق الشاسع بيننا وبينهم!
نفعل هذا رغم أننا كثيرا ما نستشهد بمقولة الإمام الشافعي ''رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب''، ولتبقى مجرد ألفاظ نقولها ولا غير .. علما بأن هذا الاستشهاد نفسه لم ينج من تبختر ''الأنا'' أو (الذات) عند الإمام الشافعي فقد بدأ بنفسه ''رأيي صواب'' وانتهى بغيره ''رأيك خطأ'' .. إنها اللغة .. فضاحة المسكوت عنه!