سورية.. أرض لعبة الأمم
كان مايلزكو بلاند موظف الاستخبارات الأمريكية هو من صكّ مصطلح ''لعبة الأمم'' في كتابه الموسوم بهذا المصطلح ثم تدفق في أدبيات الإعلام السياسي، وما يجري على أرض سورية الشقيقة بعد تفجر الغليان الشعبي ضد طغيان بشار الأسد ونظامه، ما هو إلا لعبة أمم تدور تحت مزاعم إنقاذ هذا البلد من ويلاته.
اللاعبون أمريكا والاتحاد الأوروبي من جانب، وروسيا والصين وإيران وممثلها حزب الله من جانب آخر.. أما رقعة الشطرنج الملتهبة فسورية الشقية بهم جميعا.
من الواضح أن روسيا وإيران راهنتا على أن أمريكا وحلفاءها الأوروبيين لن يورطوا أنفسهم بالوقوف إلى جانب المعارضة السورية إكراما لرغبة إسرائيل، التي سيشكل زوال نظام الأسد خسارة لا تحتمل ومواجهة لمجهول يحمل لها من التهديد مما لا يمكن قبول مجرد تصوره.. كذلك تدرك كل من روسيا وإيران أن أمريكا ما زالت تلعق جراح حروبها في العراق وأفغانستان، وأن أوباما جاء للرئاسة على صهوة جواد الوعد بإنهاء حروب أمريكا على أراضي الآخرين، فضلا عن أن روسيا وإيران راهنتاعلى معركة أوباما مع الأزمة الاقتصادية في الداخل والكوارث الطبيعية التي فاقمت هذه الأزمة وتحديات سطوع نجم الصين واقتصادات ناشئة أخرى، بدا أنها اليوم تعكس مجرى تدفق التنمية من الجنوب إلى الشمال بديلا عن الشمال إلى الجنوب.. كما يمكن أن نضيف إلى ذلك الأخذ في الحسبان خصائص شخصية أوباما الواقعة بين ذهن حالم وإرادة مهزوزة.. تشبه إلى حد بعيد شخصية جورباتشوف الذي أفلت زمام قيادة الاتحاد السوفياتي على يديه!
أما رهان أمريكا وأوروبا فقد اعتمد، منذ تفجر الثورة السورية، على ترك روسيا وإيران تتورطان في مساعدة الأسد، وأن ذلك سيشكل مصيدة لهما توقعهما في حرب استنزاف على حساب الدماء والمدن السورية، يزهق اقتصاد إيران المرهق أصلا ويدفع بمعارضي نظام الملالي وسياسة بوش ليرفعوا أصواتهم على هذا النزيف غير المبرر وعلى هذا الانحياز الأخرق.
سورية ليست هي الغنيمة المستهدفة فقط في لعبة الأمم هذه.. فمعها هناك قائمة طويلة من الصراع على مناطق النفوذ والمصالح الاستراتيجية والاقتصادية، وملف إيران النووي، وفزاعة حقوق الإنسان، وتداعيات تسريبات موظف الأمن الفيدرالي الأمريكي إدوارد سنودن وغيرها.. فالروس ما زال الهوس السوفياتي يسكنهم وإن بعباءة القومية الروسية هذه المرة، والمعسكر الشرقي الذي انهار كقطع الدومينو ما زال عقدة غائرة في عقل ساسة الكرملين اليوم.. أما الإيرانيون فشهيتهم التي فتحها غزو العراق وتركه ساحة مكشوفة لنفوذهم، فإنهم أيضا مسكونون بهوس إمبراطورية فارس ولو بعباءة شيعية.
من الواضح أن حسابات اللاعبين كانت غير صائبة ألبتة، فالثورة السورية بقيت الرقم الصعب في هذه اللعبة، ومع أن الروس والإيرانيين استطاعوا إجبار أمريكا وأوروبا على اللهاث وراء مبادراتهم من جنيف (1) إلى جنيف (2) إلى نزع السلاح الكيماوي.. إلا أن مساعي أمريكا وأوروبا لا تخفى لجعل هذه المبادرات وغيرها مما يستجد، أوراق ضغط لما هو متعذر تحقيقه قبل أن تتيحه مأساة الوضع السوري، وقد تكون حانت ساعة تحقيقه ربما بنسخة مشابهة لما جرى للعراق أو اتفاقية دايتون في يوغسلافيا السابقة.
لقد تركت أمريكا وأوروبا الشعب السوري شبه أعزل يواجه جحيم الطاغية بشار، ولم تقدم له سوى كلام ليل ليمحوه النهار أو العكس.. فيما بقيت روسيا وإيران وممثلها حزب الله تعربدان في صلف وغرور على جسد الشعب السوري معلنتين بين الحين والآخر أن هذه ''الجماعات المسلحة'' سوف ينتهي أمرها في غضون أسبوع، أسبوعين، شهر.. على ألسنة غيرهم أمثال الجنرال عون، ووئام وهاب، ومحمد رعد.. وغيرهم من سدنة النظام السوري في لبنان!
هذا المشهد الأسود الغامض يدفع ثمنه الدم السوري والأرض السورية.. وليس مهما لكل اللاعبين أن تستمر طاحونة الموت والدمار.. ولن تضع الحرب أوزارها إلا متى طالت أيدى اللاعبين ما هو في الأجندة سلفا.
لكن يبقى أن للحقيقة التاريخية في نضال الشعوب لسانا واحدا يؤكد أن اللعبة مهما كان لاعبوها خارقين فإن الشعوب صاحبة الحق هي التي تفوز في النهاية.. وهو قول يبدو أنه أخذ يحفر طريقه حتى في أذهان أطراف لعبة الأمم أنفسهم.. وليست هذه الهرولة بين أمريكا وروسيا سوى محاولة لتبييض الوجه وحجز مقعد في بهو صداقة شعب سينتصر.