الأجندة
حين يصير الإنسان أيديولوجياً بلا هوادة، يصبح عدواً لنفسه وللآخرين أيضاً لأنه سيظل يتحدث بكلمات وضعت في فمه مقصياً استقلاله الذاتي على مستوى الوعي والشعور تحت وهم التعبير عن الرأي العام أو ما يتطلع إليه الجمهور.
ومن يتأمل في فيض الخطاب الإعلامي الثقافي العربي سيجد أن ''الأيديولوجية'' قد تركت مكانها لكلمة ''الأجندة'' التي باتت بديلا كثيف الاستخدام على الألسنة والأقلام'' باعتبارها حمالة قدح وردح يوجهها واحد للآخر على أساس أنه مستلب، أي (مبرمج) فكرياً أو سياسياً كما لو أنه الناطق الرسمي لهذا الاتجاه أو ذاك .. بل أكثر من ذلك، التلميح أو التصريح بدور دنيء أو تآمري.
هذا الرواج في استخدام كلمة ''الأجندة'' ما هو إلا تحول من استخدام كلمة الأيديولوجية وإحلال لها في المكانة مع إكسابها في الوقت نفسه سمعة سيئة تصل بها إلى حد العمالة والخيانة.
كلمة ''أجندة'' معلومة حتى لدى طلاب المرحلة الابتدائية متمثلة في الكراسة التي يدونون عليها مواعيد واجباتهم وامتحاناتهم، ومعروفة على المستوى العملي بأنها تعني جدول الأعمال، غير أنها في السياسة والفكر تشير إلى الدوافع والخطط والاستراتيجيات، ما أهلها لأن تسطو على المكانة السابقة للأيديولوجية، ويتحول المؤدلج إلى صاحب أجندة مع ما سبقت الإشارة إليه من سوء السمعة.. أو ما يعني أهدافاً غير معلنة.
ليس المقصود من هذه المقاربة بين الأيديولوجية والأجندة المفاضلة بينهما أو الانحياز لإحداهما على الأخرى، إنما إبراء ساحتيهما من الاتهام السلبي لهما والنظر إليهما كأنهما مثلبة أو حالة معيبة بالمطلق.. فقد نجم هذا المنظور السلبي تجاه الأيديولوجيا بالأساس عن الويلات التي ذاقها العالم من الأحزاب الشمولية التي كانت لا تقبل عن برمجة عقول الناس ومسخهم بديلا، كما يريد ''الرفاق'' وأشباههم .. ففي عهد السوفيات كان من يخرج سنتيمترا واحدا عن تفكير ''الكرملين الأحمر'' يعد منشقا منحرفا يهان ويذل أو يسحق، وفي عهد ''هتلر'' تكفي الإشارة إلى أن جوبلز وزير دعايته يجاهر بأنه يتحسس مسدسه عند ذكر كلمة ثقافة، وقل مثل ذلك في ثورة ماو تسي تونج الثقافية، ومَن اطلع على كتاب ''بجعات برية'' سيرى أي كابوس دموي كان، والقائمة تطول وفيها صدام والأسد والقذافي .. فهذه الغشامة المفرطة في فرض أيديولوجية بلا هوادة سمعاً وبصراً وحساً وجوارح كرّست هذا النفور الحاد من الأيديولوجيا، حتى وصل درجة إنكار مفهوم الأيديولوجيا نفسه، ورأينا كيف أن مفكرين أمثال الراحلين محمد أركون ومحمد عابد الجابري أخذوا ينادون بهجر الأيديولوجيا إلى الابستيمرلوجيا أو نظرية المعرفة.
وإذا كانت الأيديولوجيا بمعناها البسيط هي المعتقد الفكري أو السياسي أو الاجتماعي أو الديني.. فهل بالإمكان شطب الأيديولوجيا شطباً مبرماً بسبب ما كان فقط؟ وهل يكون ''رأي'' دون اعتقاد؟ وهل يكون اعتقاد ما لم يكن للإنسان فكر أو تصور ينطلق منه؟ ألا يعني ذلك أنه ما من موقف إلا ويصدر عن أيديولوجية ''ما''، حتى تلك المواقف التي تقف خارج كل الطروحات الفكرية والثقافية المعروفة، فليس بالضرورة أن يتقولب المرء أو يتزمت حتى يصبح حالة متطرفة أو متعصبة كي يوسم بالأدلجة، كما أنه ليس بإمكانه أن ينفلش ويصبح عدميا لكيلا يوسم بالأدلجة، والأمر ذاته ينسحب على ''الأجندة'' فلكل إنسان أيديولوجيته وأجندته، وما لم يكن الأمر كذلك فسوف نقع في المحذور الذي يكرره مفكرو تطوير الذات: ''إذا لم تخطط فقد خططت للفشل ..''، وهل يكون تخطيط دون فكر ''أيديولوجيا'' أو ''أجندة''؟ إنه إن لم يكن الأمر كذلك فمن أين جاء هذا الفيض من التقدم والرقي الحضاريين؟ فالتشوش والعشوائية واللاموقف لا تنتج إلا التخلف والغثاء والهشيم .. وفرق شاسع بين أيديولوجية بلا هوادة ''متطرفة'' أو''أجندة سرية'' دوافعها غير معلنة وبين ألا يكون لنا فكر ولنا دوافع تستهدف إنسانية الإنسان .. ألم يقل رالف أميسون: كل إصلاح تم كان يوما ''ما'' مجرد رأي خاص؟