دور الاندماج الاجتماعي في تحسين الأداء التعليمي للمبتعثين
درس كثير من التربويين مشكلة التأقلم أو الاندماج الاجتماعي للطلبة المبتعثين أو الطلبة الدارسين في بيئات أجنبية والذين يعود أكثرهم إلى بلدانهم بعد إنهاء دراستهم أو الذين يعدون أنفسهم للهجرة. وقد كان ''دليل ميتشجان لقائمة المشاكل التي يواجهها الطلبة الأجانب'' من إعداد الدكتور جون بورتر عام 1382هـ، والتي احتوت على نحو 132 عنصرا يمكن أن تكون عائقة لتأقلم الطلبة الأجانب الدارسين في الولايات المتحدة دور في تحفيز هذه الدراسات. لقيت هذه الدراسات اهتماما أكاديميا بسبب ملاحظة الزيادة في أعداد الطلبة الدارسين في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وربما لم يتجاوز عدد الطلبة السعوديين في أمريكا في ذلك الوقت خمسة آلاف طالب وطالبة. والتأقلم أو الاندماج الاجتماعي المقصود هنا هو كيفية تمكن الطالب أو الطالبة من التعامل مع العادات الاجتماعية والثقافية أو العوامل السلوكية والخصائص الشخصية لأفراد المجتمع بما في ذلك البيئة والممارسات التعليمية داخل الجامعة وداخل الفصل الدراسي وما يمكنه من المحافظة على قيمه الدينية وعاداته الاجتماعية وهويته الوطنية وثقافته الشخصية وحضارة مجتمعه. تناول المشاكل التي يواجهها الطلبة السعوديون الدكتور عبد الرحمن الجماز في أطروحته عام 1392هـ في جامعة ميتشجان الحكومية والتي لقيت بعض توصياتها اهتماما من جهات الابتعاث في المملكة وذلك بإنشاء برنامج تحضيري للمبتعثين. كما درس هذه المشاكل الدكتور سعد عبد الكريم الشدوخي في أطروحته لجامعة أوريجون الحكومية عام 1406هـ والتي طبق عليها نموذجا معدلا لدليل ميتشيجان وتوصل إلى توصيات مهمة في هذا الخصوص. ولا حظت أخيرا دراسة بأسلوب البحث النوعي في رسالة ماجستير للطالبة نادية الشيخلي عام 1433هـ عن مهارات التفاعل الحضاري لطالبات سعوديات وخاصة احترام الحضارة الوطنية، إضافة إلى حضارات الآخرين ومن ذلك الانفتاح الفكري أي عدم إصدار أحكام مطلقة على ثقافات الآخرين مع أهمية التعمق في البيئات الثقافية للأمم الأخرى. وأخيرا كذلك تابعت أستاذة اللغة الإنجليزية راديكا جاديف استراتيجيات في تعليم ثلاثة طلبة سعوديين اللغة الإنجليزية في جامعة سنغافورة الوطنية. معظم هذه الدراسات وغيرها تشير إلى جدية كثير من الطلبة السعوديين في تحصيلهم الأكاديمي وتشير بموضوعية إلى الصعوبات التي تواجههم وأحيانا تواجه الطلبة الأجانب الدارسين في غير بلدانهم. وتشيد كثير من الدراسات الحديثة ببرنامج الملك عبد الله للابتعاث الخارجي وتعده من معالم الطريق في التفاعل السعودي ـــ العالمي في سياق الإشارة إلى تاريخ التواصل البشري. ويرى المتابع للدراسات أن البرنامج متعدد الأهداف لعل من أبسطها تعلم اللغات الأجنبية والالتحاق بجامعات أفضل والتعرف على خبرات أكبر والتفاعل والتآلف الحضاري والثقافي واستمرار التنمية المستدامة للدولة وتزويد القطاعين العام والخاص بالقوى العاملة المؤهلة والعناية بالاقتصاد المعرفي.
أود الإشارة هنا إلى أنه من المشاكل التي يقابلها الدارسون السعوديون في الخارج تعلم اللغات الأجنبية. فعلى سبيل المثال، تجيز تعليمات البعثات في المملكة سنة لدراسة اللغة وربما تمددت إلى ستة أشهر أخرى ويوجد من لا يتمكن من ذلك حتى بعد دراسة سنتين كاملتين من اجتياز المتطلبات في اللغة الإنجليزية والتي سبق له دراسة ما لا يقل عن ست سنوات في المرحلتين المتوسطة والثانوية للمبتعثين للدراسة الجامعية وربما درسها بعض المبتعثين كمتطلب إجباري في كثير من الجامعات السعودية للمبتعثين للدراسات العليا. كما أن بعض الطلبة درسوا اللغة الإنجليزية طوال مدة دراستهم السابقة وهم الدارسون في مدارس التعليم العام الأهلي وستتعامل البعثات مع طلبة كانوا يتعلمون اللغة الإنجليزية منذ السنة الدراسية الخامسة من المرحلة الابتدائية. والسؤال البدهي: ما هي الجدوى من الصرف طوال هذه السنوات وفي المدارس الحكومية أو الخاصة على تعلم اللغة الإنجليزية، بما في ذلك إعداد المناهج وتأليف الكتب وتأهيل المدرسين والتدريب والتوجيه التربوي، إذا كانت النتيجة تمويل ما يقارب من سنتين لتعلم اللغة وضياع سنتين أو أكثر من عمر طلبتنا وطلابنا كان من الممكن أن تُضاف إلى حياتهم العملية وإلى الإسهام في التنمية الاقتصادية للدولة.
يختلف الطلبة الأجانب عموما والسعوديون على وجه الخصوص في التأقلم والمواءمة الحياتية مع البيئات والتقاليد والممارسات والقيم في دول الغربة بما في ذلك في الالتزام الدقيق بالمواعيد واستخدام عبارات اللياقة (من فضلك، ولو سمحت وهل من الممكن،...) واستخدام وسائل النقل العام والتعود على ساعات العمل والتأقلم مع ساعات الليل والنهار، في بعض الدول، ونوعية الأطعمة وطبيعة الملابس والاستقلالية الذاتية للبنات والأولاد وتنظيم المصروفات. ومن الممارسات في النواحي الأكاديمية التركيز على الطالب كمحور للتعلم عوضا عن المدرس كمحور للتعليم والقدرة على كتابة التقارير بلغة أكاديمية، وتقديم العروض العلمية والحوار، وتقبل النقد واحترام آراء الآخرين، والنقاش بهدوء وروية. ومن ذلك القدرة على التعامل مع الجنس الآخر من الطلبة والمدرسين والإداريين والمشرفين الأكاديميين، والتعرف بمهنية على الحقوق والواجبات وتفادي الممنوعات مثل الانتحال في الكتابة والتأليف، والتأكيد على الاستشهاد بأقوال الآخرين وحقوقهم الفكرية. إضافة إلى الانضباط في التعامل مع الجيران في السكن وفي المكتبة والمكتب والحقوق الأسرية للأطفال والأزواج والزوجات.
عنيت دراسات متعددة بكثير من هذه المشاكل والصعوبات التي تواجه الطلبة الأجانب في بلدان دراستهم مثل طلبة شرق آسيا وطلبة أمريكا اللاتينية ودول أوروبا الشرقية وبعض الدول الإفريقية. وتوصلت هذه الدراسات إلى مقارنات في التأقلم والاندماج بين طلبة هذه الأقاليم وتوصلت إلى توصيات متعددة استفادت منها الجهات الممولة لبعثاتهم والجامعات المضيفة لهم، إضافة إلى استفادة الطلبة أنفسهم. انعكست هذه الدراسات على تيسير سرعة تعلم اللغة وكفاءة التحصيل العلمي للطلبة.
يُعد برنامج الملك عبد الله للابتعاث الخارجي من أكبر البرامج الوطنية الممولة حكوميا في العالم استفاد وسيستفيد منه منذ بدايته وحتى انتهاء مرحلته الثانية مئات الآلاف من الطلبة، ويكلف مليارات الريالات سنويا، وله أثر تعليمي وحضاري وثقافي، وهو مشروع ريادي في التواصل العالمي وحوار الحضارات والتبادل العلمي والتنمية الاقتصادية والمجتمعية. من المؤكد أن عدد الطلبة المستفيدين من هذا البرنامج يتجاوز عدد طلبة أي جامعة في المملكة، بل وربما تجاوز عددهم عدد الطلبة في ست أو سبع جامعات من الحجم المتوسط، فالمملكة أو حتى الولايات المتحدة أو عشر جامعات بريطانية أو أسترالية. في ظني أن التعرف على كل عوامل التأقلم الاجتماعي والتكيف الشخصي والاندماج الثقافي والتفاعل المعرفي لمنسوبي برنامج الملك عبد الله للابتعاث الخارجي، وهي كثيرة ومتعددة ومعقد بعضها، وإخضاعها للدراسة والبحث العلمي الممنهج، لا يقل أهمية عن دراسة مشاكل بحثية بحتة في بعض التخصصات الطبية أو الهندسية. ودعوتي للمعنيين بهذا البرنامج الرائد أن يعتني الطلبة وجهات الابتعاث والباحثين في كليات التربية في الجامعات السعودية والمراكز المعنية بأبحاث التعليم العالي في الجامعات بتوجيه بعض الرسائل العلمية وبحوث الماجستير والدكتوراه وبعض مشاريع البحوث أو كراسي البحث أو مراكز التميز، إن كان ذلك ممكنا، لدراسة مشاكل طلابنا بغرض تحسين أدائهم الأكاديمي، وتحفيز دورهم الاجتماعي في الخارج، ودعم أثرهم العلمي والثقافي والحضاري في الخارج. قد يكون المجال الذي يمكن إضافته عاجلا للتخصصات المرغوب الدراسة فيها هو دراسات تعنى وتبحث في برنامج الملك عبد الله للابتعاث الخارجي.