رمضان والاستهلاك.. مكامن الخلل والحلول

في كل عام هجري، وبالتحديد في الشهر التاسع، تستقبل الأمة الإسلامية شهر رمضان المبارك، الذي يعد من بين الشهور المتميزة على مستوى بقية شهور العام لدى جميع المسلمين بمشارق الأرض ومغاربها، نظراً لفضائله العظمية ومنافعه الدينية والدنيوية العظيمة والتي قد يصعب ذكر جميعها وحصرها في هذا المقام، والتي من بينها على سبيل المثال لا الحصر: إتاحة الفرصة للمسلم للتركيز على عبادة الله - عز وجل - والتقرب منه بقراءة القرآن والدعاء والتضرع وأداء صلاة التراويح وأداء مناسك العمرة والتصدق وإخراج زكاة الفطر، وإلى غير ذلك من أنواع العبادات.
لكن رغم الفضائل الدينية والدنيوية العديدة لهذا الشهر العظيم، إلا أنه وللأسف الشديد بدأ معظم الناس في وقتنا الحاضر استغلال قدسيته وأوقاته الجليلة وعظمة فضائله بما لا يعود عليهم بالنفع لا بالدنيا ولا بالآخرة، وذلك بممارستهم العديد من العادات والتقاليد السيئة، مثل السهر في الليل وعدم استثمار الوقت بالشكل الذي يعود بالنفع والفائدة الاقتصادية والاجتماعية على صاحبه، ما تسبب في إفساد حلاوة هذا الشهر وفي حدوث خسارة كبيرة للإنسان المسلم في الدنيا والآخرة.
من بين السلوكيات والتصرفات الخاطئة، التي عادة ما يسلكها الناس في شهر رمضان الكريم، الإفراط في المأكل والمشرب للحد الذي ينعكس سلباً على قوى العرض والطلب في سوق السلع والخدمات، وبالذات على الطلب والعرض المرتبط بالمواد الاستهلاكية والتموينية، والتي تأتي في مقدمتها وعلى رأسها المواد الغذائية التي بالتحديد تشهد عادة معدلات استهلاك متزايدة وغير طبيعية في شهر رمضان مقارنة ببقية الشهور، مثل أنواع معينة من المأكولات والمعجنات والمشروبات، إضافة إلى أنواع معينة من السلع الاستهلاكية التي لها علاقة بمواد النظافة، حيث قدر بعض التجار في مناطق المملكة أن شهر رمضان يشهد زيادة في معدل الاستهلاك للمواد الغذائية تراوح بين 30 و60 في المائة جراء العادات الرمضانية التي تحرص على إحيائها الأسر في السعودية، والذي يصاحبه إنفاق إعلاني ضخم جداً يقدر بنحو 1.6 مليار ريال فقط في شهر رمضان.
هذا الإقبال غير العادي والمتزايد من الناس على شراء السلع الاستهلاكية بشكل عام والمواد الغذائية بشكل خاص، يجده التجار في السعودية وغير السعودية فرصة سانحة للدفع ببضائعهم وسلعهم إلى الأسواق، وبالذات السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية ذات الطبيعة الموسمية Seasonal Goods، باعتبار أن بعض أنواع وأصناف هذه السلع لا يقبل الناس على شرائها بشكل كبير سوى في شهر رمضان، بينما تشهد ركوداً غير عادي ببقية شهور العام، ما يجده التجار أيضاً فرصة أخرى سانحة لرفع الأسعار بغية تعويض الخسائر أو على الأقل تعويض ضعف وتدني مستوى هوامش الأرباح التي تتحقق من بيع ذلك النوع من السلع في مواسم أخرى غير موسم شهر رمضان المبارك.
كشف تقرير نشر في جريدة الرياض بالعدد 16059 عن حجم المبالغ الضخمة التي يضخها المستهلكون في السعودية فقط في شهر رمضان المبارك في الأسواق التجارية، والتي قدرها التقرير بنحو 80 مليار ريال، والتي تساوي تقريباً 30 في المائة من حجم سوق التجزئة في السعودية الذي يقدر بنحو 270 مليار ريال.
جهود وزارة التجارة والصناعة لكبح جماح ارتفاع أسعار المواد التموينية حثيثة، وبالذات خلال شهر رمضان المبارك، حيث عادة ما تكثف الوزارة جولاتها التفتيشية خلال هذا الشهر الكريم على الأسواق، بهدف رصد المخالفات واتخاذ اللازم حيالها. كما يوجد بموقع الوزارة مؤشر لأسعار المواد التموينية والغذائية الأساسية في المخازن الكبرى، والذي انطلقت فكرته في الأساس بمبادرة من الأمير سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، عندما كان أميراً لمنطقة الرياض، والذي يهدف إلى توضيح حركة أسعار عدد من السلع التموينية الأساسية التي تقوم برصدها الوزارة من خلال مراقبيها، إضافة إلى التي يتم تزويد الوزارة بها إلكترونياً من خلال عدد من المراكز التجارية خلال فترة معينة. كما يهدف المؤشر إلى تمكين المستهلك من التعرف على الأسعار بمنافذ بيع مختلفة ومقارنتها للاختيار من بين أفضلها.
كما تقوم وزارة التجارة والصناعة، ضمن إجراءات حماية المستهلك، باتخاذ إجراءات للتشهير بالمخالفات التجارية، والذي يأتي إنفاذا للأمر السامي بالتشهير بالمغالين في الأسعار، والمتلاعبين في الأسواق، وتطبيقا لأنظمة مكافحة الغش التجاري التي تنص على التشهير بالأحكام الصادرة في قضايا الغش التجاري. كما قد دأبت الوزارة أخيراً على توعية وتحذير المستهلكين من السلع المغشوشة والممارسات التجارية غير النظامية التي تأتي ضمن إجراءات الحفاظ على الصحة والسلامة العامة.
الخروج من مأزق ارتفاع أسعار المواد التموينية، على مدار أشهر العام، وبالذات خلال شهر رمضان المبارك، يتطلب تعزيز ثقافة الاستهلاك المرشد لدى عامة المستهلكين في السعودية، والتأكيد على أهمية التخطيط المالي على مستوى الأسرة، وتحجيم سلوك الشراء العشوائي غير المبرر في معظم الأحيان، واللجوء للبدائل، واتباع أسلوب الشراء المقنن والمدروس الذي يلبي احتياجات الأسرة دون أن يكون هناك فرط ولا تفريط، وبهذا سنتمكن - بإذن الله - من القضاء على مكامن الخلل في الاستهلاك التي تحدث في شهر رمضان، ليصبح شهر رمضان شهر عبادة وصوم وتفرغ وتضرع لله، وكذلك توفير واقتصاد في المأكل والمشرب، بعيداً عن الإسراف والتبذير الذي يفقد الشهر الفضيل قدسيته وروحانيته الدينية والدنيوية على حد سواء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي