للابتعاث أكثر مما عليه
لا ينكر كثير من الكتاب في صحفنا المحلية مزايا الابتعاث الكثيرة، ولكني لاحظت أخيرا الإشارة ضمنا أو صراحة إلى مساوئ وسلبيات الابتعاث أكثر من النظر إلى إيجابياته الكثيرة والمتعددة. يذكر البعض أنه كان الأولى أن يكون الاستثمار في الجامعات السعودية بدلا من ابتعاث الطلاب والطالبات إلى الخارج، لما قد يتعرضون له في بلاد الغرب من سلبيات كثيرة قد تؤثر في سلوكهم وأدبهم وربما بالغ البعض في أثرها على عقيدتهم.
يؤكد قرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـــ حفظه الله ورعاه ــــ في مشروعه لابتعاث الشباب، الذين يشكلون جزءا كبيرا من مجتمعنا، نظرة بعيدة واستثمارا مجدِيا اقتصاديا طويل المدى من خلال الاستثمار في الموارد البشرية الواعدة والطاقات الهائلة للإسهام في بناء الوطن المعطاء ودعم التبادل الثقافي.
ولا يخفى على الغرب والشرق جهود خادم الحرمين، ليس فقط في دعم الحوار الوطني بين جميع مكونات الشعب السعودي من خلال مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، وإنما في تعزيز حوار الثقافات والحضارات بين كل مكونات الإنسانية التي تعيش على هذه الأرض. وربما أراد الملك عبد الله ـــ حفظه الله ــــ تحقيق الحوار بين الجانب الوطني الداخلي والجانب العالمي الخارجي بشكل تفاعلي وعملي في السنوات الماضية لتأكيد ما دعا إليه من أنواع الحوارات في عديد من المحافل، والمناسبات في الوطن وفي الخارج، وبالتالي فالطلاب المبتعثون هم جزء من هذا البرنامج الحضاري الكبير. المبتعثون هم سفراء الوطن في البلدان الخارجية، حيث إنهم يثبتون لمن حولهم في تعاملاتهم اليومية أن بلادنا ليست كما يظنون، فالكثير من الشعوب لا تعلم عن بلادنا إلا القليل، وربما القليل الخاطئ إن كانوا يعلمون شيئا. والمتتبع لفلسفة وأدبيات برنامج الملك عبد الله للابتعاث الخارجي يدرك أنه أتى نتاج قرارات حكيمة قائمة على اختيار صفوة من العقول السعودية لتمثيل مملكتنا الحبيبة على أكمل وجه.
من المعروف أن عدد المبتعثين ربما زاد على 150 ألف طالب وطالبة وهو ما يوازي سعة أكثر من عشر جامعات متوسطة الحجم أي أن السعودية استخدمت السعة المتوافرة في الجامعات في العالم وفي تخصصات رئيسة كالطب والهندسة وإدارة الأعمال حتى تتمكن من استكمال شبكة الجامعات الناشئة الجديدة ويشتد عودها وتنتظم كلياتها. كما أن هذه الجامعات الناشئة تستفيد من المبتعثين للعمل فيها كأعضاء هيئة تدريس بعد عودتهم. والابتعاث لا يقول بأن جامعاتنا أقل من غيرها من الجامعات الأجنبية فيما تقدمه من علوم ومعارف وإن كان لبعضها خبرة بحثية وتجربة تعليمية أكبر مما لدى بعض جامعاتنا.
من المكتسبات الجلية لبرنامج الابتعاث أن الطلبة المبتعثين يقدمون نموذجا لحضارتهم و ثقافاتهم في تلك الجامعات ولمرتاديها من الطلاب من جميع أصقاع الدنيا ومن مختلف الأعراق. إن ما يقوم به برنامج الابتعاث يوفر على الدولة أموالا طائلة كان من الممكن توجيهها لبرامج العلاقات العامة لتقوم ببعض الحملات للتعريف بالوجه المشرق لبلادنا وللرقي الإنساني لديننا وتقوم بدور ثقافي من جهة واحدة حتى وإن قامت هذه المنظمات بحملات كبيرة وقامت ببذل جهود جبارة، فهي لن تكون أعلم بحضارتنا وثقافتنا من هؤلاء الطلاب المبتعثين.
توجد مشاريع ابتعاث مماثلة وفي كثير من الدول ولكنها تتضاءل حجما ونوعا وشمولا وتنوعا أمام مشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز للابتعاث الخارجي. تقوم بالابتعاث من خلال برامج الحراك التعليمية كثير من البلدان وتركز على الحوارات الثقافية بين فئات الشباب وتعتمد على برامج الابتعاث لنشر ثقافاتها وحضاراتها والتعريف بها والتعرف على ما لدى غيرها من قيم وتقنيات وأساليب وإبداعات تختار لنقل ما يناسبها وتترك منه ما لا يعنيها. توجد العديد من برامج الابتعاث التي تمولها الحكومات أو بعض الشركات أو المؤسسات الوقفية وفي بلدان متقدمة عديدة مثل بريطانيا وألمانيا وأمريكا والصين. تقوم هذه الدول على ابتعاث طلاب وموظفين لبعضها بعضا ولبلدان مجاورة لغرض دعم الحوار الثقافي والمعلوماتي والتعرق على التجارب. والسعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين ليست استثناء من هذا التوجه العالمي فهي بلد مسلم والحكمة ضالة المسلم أينما وجدها فهو أولى بها.
ربما يكون قلة من المبتعثين عرضة لبعض السلبيات، لكن بقاء هؤلاء الطلاب في بلادهم لا يضمن عدم تعرضهم لأي من المخاطر الحياتية، بعد وصول تقنية الاتصال إلى أوج تقدمها. وظهور حالات فردية منحرفة عن السبيل القويم قد تحدث في أي مكان ويجب ألا تكون الحالة الفردية ظاهرة نبني عليها قراراتنا. ولا يوجد أي برنامج أو مبادرة أو فكرة لا تخلو من سلبيات حتى وإن عظمت إيجابياتها ويرى المتشائم الجزء الفارغ من الكأس دائما مهما كان مقدار الماء الذي فيه.
أتحدث مع كثير من زميلاتي المبتعثات عما نتعلمه، فلم نلحظ إلا أننا ازددنا إيمانا بديننا وكبر تعلقنا ببلدنا وتجذرت وطنيتنا، نتحدث ونحن نطمح أن مثل نتاج برامج الابتعاث الأولى من العلماء والمفكرين والأدباء والأطباء والمهندسين والوزراء والأكاديميين الجامعيين الذين نعدهم قدوة لما قدموه ويقدمه لمجتمعهم.
توجد الكثير من المكتسبات التي يلمسها المبتعثون ويعودون بها، إضافة إلى العلم والثقافة والتأهيل المهني والتدرج الأكاديمي والحصول على المؤهل. يتعرض المبتعثون في مراحل التعليم لعدد من الأنظمة يجعلهم على أساس أقوى ويكسبهم خبرة أفضل ويعطيهم قدرة على المقارنة والمفاضلة مما يساعدهم على اتخاذ القرارات بسهولة. يتعلم المبتعثون الانضباط، وأساليب الحوار المختلفة والقدرة على اختيار الكلمات في المداخلة برقي والتواصل بأدب والالتزام بالوقت. ويتعلم المبتعثون طرق النقد وأساليبه وقبوله بفاعلية ودون الحاجة لاستخدام الكلام الجاف الذي ربما تعودناه من طبيعتنا الصحراوية. أثبتت دراسات كثيرة أن خبرة الطلاب المبتعثين وقبولهم لغيرهم وقدرتهم على التعايش مع من يخالفهم الرأي أو العادات أو القيم تضاهي كثيرا خبرات الطلاب الذين لم ينتقلوا من بلدانهم ولم يغيروا جامعاتهم أو الذين قضوا جل حياتهم في مدينة واحدة أو كان كامل مراحل تأهيلهم من جامعة واحدة. كما أنه من البديهي أن يتعلم لغة أخرى ومعروف أن لها أثار توسيع مدارك الفرد وتحسين مصادر معلوماته، وأخيرا ذكر بعض الخبراء أن لإجادة أكثر من لغة أثر «طبي»، فهي تحد من مرض الخرف. عجبت مع بعض الزميلات والزملاء المبتعثين عن تشديد جامعاتنا علينا بتجنب الانتحال أو السرقة العلمية التي لا توليها مجتمعاتنا وربما بعض جامعاتنا أي أهمية. وقد أدركت صداها وأثرها على غيرنا عندما استقال وزير الدفاع الألماني كارل جوتنبيرج في آذار (مارس) من العام الماضي، واستقال رئيس المجر بال شميت في بداية نيسان (أبريل) من هذا العام لأمر يعده غيرنا من الكبائر الأكاديمية، ونحن نراه متداولا وفيه بين كتّاب أو علماء في مجتمعاتنا العربية. ولتفادي ذلك يتم فحص كل ما نقدمه من واجبات وأبحاث على برنامج للحد من السرقات الفكرية.
هذه بعض المكتسبات الإضافية الحميدة التي يجنيها كثير من المبتعثين خلال فترة حياتهم في الخارج، دون تخطيط مسبق، وينجح الكثير في تبنيها دون مقررات ولا توجد في سجلاتهم الدراسية. من المتوقع أن تتمثل هذه المكتسبات في تغير إيجابي كبير، فهي خبرات متعددة وثقافات واسعة ستظهر في المؤسسات الحكومية والخاصة التي سيعملون بها وسيقوم هؤلاء المبتعثون ـــ بإذن الله ـــ بنقل معارفهم وخبراتهم إلى الأجيال التي تليهم. فعند عودة جميع هؤلاء الطلاب المبتعثين إلى المملكة سيتصف الأغلبية في ذلك الوقت بخصائص وقيم عالمية وأخلاق كونية وتجارب عابرة للقارات تعزز قيمنا وتؤكد صدق حضارتنا.