معهد الإدارة والحلقة المفقودة!

معهد الإدارة العامة، هذا الصرح العلمي المميز، ظل هو الجهة المسؤولة عن إعداد القيادات الإدارية وعن تدريب وتأهيل القوى العاملة في مختلف الأجهزة الحكومية، وهو يضم كادراً من النخب عالية التعليم المؤهلة في معظم الأحوال من جامعات أوروبية وأمريكية، ولديه برامج تعتمد في محتواها المعرفي والإجرائي على الخبرات المتقدمة في الغرب وغيره من دول حققت تقدماً مشهوداً في هذا المجال، كما أنه يضم مركزاً لقياس كفاءة الأداء في الجهاز الحكومي، ويصدر كتبا ومجلة ويقيم ندوات ومحاضرات ومؤتمرات لكن مقابل ذلك كله، ما زال الحديث عن إنتاجية الأجهزة الحكومية ومستوى جودتها ونوعيتها محل انتقاد وشكوى دائمين وهو ما يترجم مباشرة خللاً في كفاءة أدائها ووجود مصاعب تحد من تدفق العمل وزيادة إنتاجيته وتحسين نوعيته.
وما دام الأمر كذلك ـــ وهو كذلك بالفعل! ـــ فلا بد أن السؤال الحاد والجوهري ينبغي ألا يوجّه فقط إلى الأجهزة الحكومية وإنما لا بد أن يوجّه كذلك إلى معهد الإدارة العامة نفسه الذي رغم عمره المديد، ورغم قواه البشرية وخبراته الأكاديمية المميزة وبرامجه ورغم دعم الدولة المادي والمعنوي له لم يستطع أن يحقق الكفاءة والجودة والنوعية في عمل الجهاز الحكومي على النحو المأمول .. فلماذا حدث هذا وقد تخرج من على مقاعده الآلاف من موظفي هذا القطاع؟!
إن من يطالع الحجم الهائل من الطروحات النظرية في مناهجه وكتبه وتقاريره ومجلته وفعالياته المختلفة والقدرات الأكاديمية المشاركة فيها وما يتضمنه هذا الحجم المتنوع النظري من أفكار مميزة ورؤى ثاقبة في مجال الارتقاء بثقافة العمل وتطوير المهارات القيادية سيجد نفسه حتما في مأزق حاد للسؤال عن مكمن العلة ومصدر الفصام بين جهد المعهد الدؤوب وتأثيره؟ وكيف بمعهد له هذا التاريخ وعنده كل هذه الإمكانات لا يوافق حصاد البيدر معه حساب الدفترة؟
ليس المقصود بما أشرت إليه استفزاز المعهد باتهام في التقصير أو العجز وليس مطلوبا كذلك أن يبادر المعهد للترافع عن نفسه .. فما من تهمة ولا اتهام، ولا دافع لإلقاء تبعة اللوم والملامة عليه أو جعله وحده مشجباً .. غير أنه ما من شك أن هذا السجال الطويل عن تعثر برامج ومشاريع التنمية وعن تخثر مصالح المواطنين في مراجعاتهم الأجهزة الحكومية التي كان معظم كوادرها تلاميذ للمعهد وخريجي دوراته يبرر هذا التساؤل بل يستوجبه .. فهل العلة في أن خريجي المعهد ينسون ما تعلموه فيه ساعة يغادرون عتبة بابه؟ وهذا غير معقول، وإذا كانت بيئة العمل نفسها في الأجهزة الحكومية غير مواتية بسبب تقادم القوانين والأنظمة وأنه لم يمسها التطوير وظلت بيروقراطية وعسيرة، فما الذي حال دون أن يؤثر خريجو المعهد ومتدربوه بمعارفهم ومناهجهم الحديثة دون الصعود بإجراءات العمل وأنظمته إلى سدة العصر؟ أم تراها حيوية وامتيازات القطاع الخاص ثبطت الحماس؟ أو أن نوعية ومقاس ''الطواقي المعرفية'' التي يقدمها المعهد ''البرامج'' لا تناسب الرؤوس البشرية؟
وبعد.. هل يعني هذا أن معهد الإدارة العامة في حاجة إلى تقويم أدائه، وإخضاع تجربته إلى نقد ذاتي موضوعي من واقع ما حدث ويحدث؟ وإن كان قد فعل.. فما سر هذا الذي يحدث؟ إنني حتما لا أملك إجابة عن هذه الأسئلة.. لكن للمعهد ولمن شاء أن يجيب، لعلنا نعثر على حل اللغز .. أو نجد الحلقة المفقودة!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي