أنيس منصور كما عرفته ..
منذ ما يقرب شهر , غادرنا الكاتب الشهير أنيس منصور والذي يُعتبر من أغرز الكتاب العرب و تُعد كتبه الأكثر انتشاراً بين عموم العرب ..
ترجع معرفتي به إلى زاويته اليومية في جريدة الشرق الأوسط, إذ كنت مواظباً على قراءة عموده وفي نفس الوقت كنت أقرأ كثيراً للأستاذ عباس العقاد, و ذات يوم تحدث أنيس منصور عن مقال له أعاد كتابته ما يقرب من ثلاثين مرة ! و السبب لأنه لما عرض المقال على العقاد إعجب به و قال أنه فيه شيئا من أسلوبه , و حيث أن أسلوب العقاد الكتابي جاف , فقد اعتبر أنيس منصور ذلك مؤشراً خطيراً!
توقفت بعدها عن القراءة للعقاد و اتجهت إلى أنيس منصور , و كان أول ما قرأت له من كتب هو كتاب " في صالون العقاد .. كانت لنا أيام" و من شدة استمتاعي به فقد قرأته مرتين خلال عشرة أيام مع أن عدد صفحاته يزيد على 700 صفحة من الورق الكبير. وأقر أني لمست بعد قرائتي لهذا الكتاب تغيراً في أسلوبي الكتابي (إن كان لي أسلوب).
لم يكن أنيس يود العمل في المجال الإعلامي فقد كان يرى نفسه في المجال الأكاديمي , لكن نظراً لاعتبارات مادية فقد عمل في الصحافة ومنها تعرف عليه القراء. عمله في الصحافة حتم عليه أن تكون كتاباته موجزة و خفيفة ومشوقة مع العلم أن تخصصه الجامعي كان في الفلسفة و معظم مقالاته عرض لآراء الفلاسفة قديماً وحديثاً في السعادة والمال والزواج والحب والرجل والمرأة , لا أنها كانت خفيفة ومشوقة والسبب أن الكتابة في الصحف موجهة إلى قراء متفاوتين معرفياً وعقلياً من جهة ومن جهة أخرى لا يُنظر للصحف والمجلات على أنه موطن للطرح العلمي الرصين, لذلك حصل أنيس منصور على جهور عريض لم يكن ليحصل عليه لو أنه اكتفى بالتدريس بالجامعة.
يمكن أن تُقسم معلومات أنيس منصور التي يذكرها في مقالاته إلى قسمين : شخصية و عامة , معلوماته شخصية مكررة كثيراً في كتبه و كنت في الحقيقة لا أصدق معظمها, من ضمن ما يذكره أنه في المرحلة الإبتدائية طلب منه في اختبار الرسم أن يرسم "كانوليا" و حيث أنه لم يكن يعرفها فقد بكى و ضحك منه التلاميذ , بعد ذلك تولد لديه هوس بتجميع زجاجات الكانوليا, هذا ما كان يذكره و كنت لا أصدقه حتى شاهدت له حلقة في اليوتبوب و في مكتبه العشرات من هذه الزجاحات , أيضاً حكي كثيراً أن أمه ظلت "تسكب عليه الماء أثناء الاستحمام" حتى بلغ منتصف الثلاثينات !.
تحتوي مقالات أنيس منصور على الكثير من المعلومات الكثيرة و الممتعة لكنها غير موثقة ! وهذا ما يدعو الكثيرين للتوقف عن قبولها , إضافة لذلك, يتحدث أنيس منصور عن نفسه أنه كان يفبرك التعليقات على المقالات التي يكتبها و يرد عليها ! وحضر مرة إليه رجل غاضباً لأن أحد كتاب الجريدة التي يرأس تحرريها أنيس منصور قد سرق مقالاً كتبه ناقد إيطالي , فطيب أنيس منصور الرجل بأن أصدر قراراً بفصل الكاتب و لم يكن الكاتب سوى أنيس منصور يكتب باسم مستعار!.
تدور أفكار أنيس منصور في مقالاته عن الشباب والزواج والحب والمرأة والسعادة والحظ والقلق مستخدماً سير المشاهير من فلاسفة وقادة عسكريين و سياسيين وأدباء وروائيين وموسيقيين مادة يتناول به أفكاره, وأنا مغرم جداً بقراءة السير و لعل هذا يفسر انجذابي لكتابات أنيس منصور, من الطريف أن الشيخ عبدالحميد كشك تهكم مرة على أنيس منصور بقوله إذا دخل رمضان تكلمت عن عمر بن الخطاب و إذا خرج رمضان تكلمت عن مارلين منرو !.
تحدث كثيراً أنيس منصور عن أزمته الفكرية و قلقه لما كان شاباً , وكيف كان يجمع بين حضور جلسات جماعة الإخوان المسلمين و جمعية التوفيق بين الأديان السماوية والوجودية , وقد تهكم عليه مرة العقاد لما عرف أنه يجمع بين هذه الأمور معاً بقوله : مولانا , إنت مش فاهم حاجة !!" و حكى عن نفسه أنه يقرأ في الفلسفة المسيحية حتى أثرت عليه , و لما خطب مرة في مولد النبي – عليه الصلاة و السلام – صافحه الإمام حسن البنا وقال له : الأخ مسيحي ؟!.
يذكرني مركز أنيس منصور الاجتماعي بجهاد الخازن , فكلاهما برز في الإعلام وكون علاقات واسعة و كبيرة مع المثقفين والإعلاميين والفنانين والسياسيين والجمع بين هذه الفئات معاً في الوطن العربي ليس بالأمر الهين , وإن كان جهاد الخازن أعلى منزلة في حجم علاقاته.
مع أن أنيس منصور يجيد الإنجليزية والألمانية والإيطالية وتحدث عن نفسه أنه يقرأ كثيراً في كتب الفلسفة ومع ذلك لم تحقق كتبه نقلة فكرية في المكتبة العربية , وهذا يعود إلى طبيعة نتاج أنيس منصور والذي كان على شكل "مقال صحفي" و طبيعة المقال لا تسمح للكاتب بعرض أفكاره بطريقة عميقة, أيضاً أنه لم يتبن مذهباً فكرياً معيناً , هل هذا يفسر لم رفض فكرة الإنجاب؟ فهو لم يكن ير أن الحياة تستحق أن يعيش فيها المرء, و المذاهب و العقائد تمنح المرء اليقين في مواجهة صعوبات الحياة.
برأيي الشخصي أن أنيس منصور كان من الممكن أن يحقق نجاحاً أكبر مما حققه لو أنه توقف عن كتابة في الصحف و اتجه إلى التأليف, فأنيس عمر حتى بلغ 87 عاماً, جالس أدباء وعلماء ومثقفين وسياسيين , مما يكسبه عمقاً في فهم الحياة يضاف إليه قراءته الواسعة والعميقة , لكن كمال قيل "الحلو ما يكملش".