Author

عراقيون وأحوازيون توحدهم القبيلة بعدما فرقتهم الحدود

|
منذ ظهور الدولة الحديثة في الشرق الأوسط مطلع القرن العشرين حتى الآن ظلت مشكلات منطقتنا عالقة لم تفلح هذه الدولة في حلها لا بل عقدت معالجة ما سببته من مشكلات وتفاقمت من معالجتها، وهي أنّ الحدود التي رسمت على أساسها خريطة الدول كانت بالأساس تأخذ بعين الاعتبار السياسة الدولية والمصالح فقط، ولم تأخذ بالحسبان ما سيترتب على مثل هذه القضية من تراكمات تاريخية مستفحلة. فقد قامت القوى العظمى مطلع القرن الماضي برسم خريطة معظم دول الشرق الأوسط خلال حقبة الاستعمار الغربي للمناطق الشرق أوسطية على مبدأ سياسي لم يراع فيها مشاعر وتأريخ هذه الشعوب فكلما تمعّنا في ظهور الخرائط الأوروبية المقسمة لمنطقتنا، كلما رأينا أنها تباعد تماماً بين الشعوب التي تقطن على مقربة الحدود ولم تقرب في لحظة واحدة. لذلك أدت الخرائط المذكورة دور عملية فصل دقيقة أشبه ما تكون بعملية فصل جراحية لتوأمين عن بعضهما الآخر فرغم تقارب هذه الشعوب الثقافي والحضاري والتاريخي وحتى الديني لم تشفع لهم هذه، لأنّ ما حصل في عملية فصل الشعوب عبارة عن تمزيق للجسد الواحد وبالنهاية أصبح البيت الواحد منشطراً والعشيرة مقسمة والقبيلة متفرقة بين شطري الحدود التي رسمت وكأنها عملية فصل مقصودة لمستقبل منظور. ولكن بعد أن أصبح العالم قرية كونية صغيرة وبفضل العولمة والاتصالات بدأت مساع حثيثة للم الشمل والتقريب بين الأقارب والقضاء على أثر هذا التباعد التاريخي المجحف من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة عبر الإنترنت وتأسيس النوادي والمواقع الإلكترونية وغيرها من الأدوات الحديثة ونشر الكتب خدمة للقضايا المتضررة بفعل الدولة الحديثة في الشرق الأوسط فقد قام البعض بالعمل على جمع الوثائق وترتيب البيت والعشيرة والطائفة وغيرها من الجهود، ما جعل العربي الأحوازي يتقارب مع ذاته العربية ويستعيد علاقته مع رابطته القبلية ويجد له فضاءا حيويا مهما لمواجهة التحدي الإيراني. إنّ الملاحظ هنا بأنّ شعباً مثل الشعب العربي الأحوازي الذي يقع خلف الحدود العراقية البرية والمائية الكويتية والسعودية والبحرينية والإماراتية والقطرية له امتداد تأريخي مع أشقائه وراء تلك الحدود ومن أهم هذه الامتدادات التي لم تستطع السنون ولا الحكومات في إيران على تقويضها هي قضية التلاحم العشائري والقبلي وروابط الدم الذي تربط هذا الشعب مع بقية الشعوب العربية في الخليج العربي وحتى أقصى البلدان العربية في شمال إفريقيا في موريتانيا. من هنا وجدنا من المهم جداً الاهتمام بمساعي البعض من الباحثين والنسابين والمؤرخين وحتى شيوخ ووجهاء العشائر والقبائل التي تبذل بشكل يومي للتقريب بين الشعوب العربية وعلى رأسها العربي الأحوازي والعراقي متحدين الحدود والسياسة والجغرافيا في نفس الوقت، فلأن القبيلة في الأحواز تعتبر عصب الحياة حتى فترة ما بعد اختفاء الإمارة الكعبية في الأحواز عام 1925 والتي كان يترأسها الشيخ الشهيد خزعل الكعبي وظلت هذه الدولة التي كانت تحكم بمبدأ القبيلة، ملهمة للكثير من العراقيين وغيرهم من العرب الذين ينتمون لقبائل كعب حتى يومنا هذا، ولأن هذه الدولة كانت تحمل مواصفات هي نفس المواصفات المتداولة في جميع دول الخليج العربي من هنا بقيت الأحواز في ضمير وقلب العراقي والخليجي رغم مرور أكثر من ثمانية عقود على انهيار الدولة الكعبية، وظل يحاول المواطن العربي في هذه الدول بمعزل عن انتمائه الطائفي البحث عن الإمارة الكعبية التي تعتبر من أهم الإمارات العربية في الشاطئ الشرقي للخليج قبل تشكيل الدولة الحديثة. ما أثار انتباهي هنا حجم التأليفات التي تزخر بها المكتبات العربية والتي تتطرق لقضية الوشائج التي تربط سكان هذه المنطقة من العالم في مختلف المراحل فالأحواز التي تشكلت فيها الإمارة العربية قبيل الإعلان الدولي عن ظهور الدولة الحديثة والذي يعتبر من الأسباب الرئيسية التي قوضت حلم أهله ببناء دولته التي كانت قائمة أساساً قبل دول مجاورة مثل العراق الذي كان يرزح تحت الاحتلالات الأجنبية (العثمانية، الفارسية، البريطانية) وهي تبحث قضية تاريخية مهمة من منطلقات عدة منها تأريخي وجغرافي وقبلي. هنالك عدة كتب صدرت في العراق تتحدث عن العلاقة التي تحكم الشعبين الأحوازي والعراقي، وهي تتناول قضايا تاريخية لقضية عروبة الأحواز وعلاقته بالعراق لكن بعد حرب 2003 بدأ حراك واسع من قبل الشعبين (مثقفين وكتابا ووجهاء عشائر) للم شمل العراقيين بالأحوازيين من خلال التركيز على مبدأ القرابة السببية بينهما والوشائج القبلية فبدأت الزيارات في البداية تتكاثر بين أبناء العمومة بين شطري الحدود وتنامت العلاقات حتى وصلت اليوم نحو بذل جهود للتقارب عبر استخدام وسائل اجتماعية حديثة مثل ''الفيس بوك'' و''التويتر'' ونشر وتأليف كتب حول علاقة القرابة القبلية بين العراقيين والأحوازيين على مر العصور لحد هذه اللحظة. أنشئت عدة صفحات على التويتر والفيس بوك تحمل أسماء القبائل العربية بين ضفتي الحدود وقبل سنوات قليلة ظهرت مواقع تحمل نفس الأسماء القبلية واليوم تطور الأمر لتنشر كتب عن هذه العلاقة، فالكتاب الذي بين يدي، الذي يحمل عنوان ''قبائل بني كعب - من الماء إلى الماء'' هو من تأليف ''عقيل أبودايم الكعبي'' وهو عراقي يقيم في أميركا ويعود نسبه إلى قبائل كعب المنتشرة في العراق والأحواز والإمارات والبحرين وبقية الأقطار العربية مثل السعودية والكويت وهي نفس القبائل التي حكمت الأحواز في فترتين متتاليتين، الأولى فترة ''إمارة البوناصر'' (من القرن الثامن عشر إلى القرن التاسع عشر)، وكان شيخ سلمان الكعبي أحد أمراء هذه القبيلة الذي تحدثت عنه مصادر غربية عدة بسبب تأسيسه قوة بحرية لا يستهان بها في الخليج وهزم في معارك بحرية البرتغاليين وغيرهم. أما الإمارة الثانية التي حكمت الأحواز فهي إمارة المحمرة الكعبية التي اشتهرت بخزعل الكعبي وانتهت باستشهاده على يد قوات درك تابعة للملك الإيراني رضا شاه الذي حول إمارة كعب إلى منطقة خاضعة له بعدما كانت تتمتع باستقلال كامل في نهاية عشرينيات القرن الماضي. ففي إطار التقريب بين الأحواز والعراق من خلال التركيز على القبيلة والعشيرة يأتي جهد كتاب ''من الماء إلى الماء'' لمؤلفه العراقي الكعبي بنمط مختلف عما شاهدناه، حيث يفخر مؤلف الكتاب بتأريخ الأحواز الذي حكمته إمارة كعب ويعتبره امتداداً لتأريخه وحضارته ويستطرد الوقائع التاريخية وكأنها وقائع ملحمية تهم شعبه وحتى بلده بعدما تبيّن أنها تهمه بشدة وتشده إليها، فيبدأ الكاتب كتابه بمقدمة تنفي وصف ساحل الدولتين الكعبيتين في الضفة الشرقية من الخليج (إمارة ألوبناصر تحديداً في القرن الثامن عشر للميلاد) من قبل البعض من المؤرخين على أنه ساحل ''الهدنة''، ''ساحل الصلح''، ''ساحل القراصنة'' بسبب ما أبداه الكعبيون من مقاومة آنذاك بوجه المحتلين وبناء قوة بحرية خاصة بهم مكنتهم من الحفاظ على شواطئهم من أي احتلال واستقلال تام وطرد المحتلين لبلادهم إن كانوا فرساً أم أوروبيين. ويشير عقيل أبو دايم الكعبي في كتابه ''قبائل كعب'' إلى أنّ دولتي كعب كانتا تتمتعان بسيادة تامة واستقلال كامل على أراضيهما وهذا بحد ذاته اعتراف يطلق من قبل باحث يحاول جاهدا توحيد القبيلة وإن كلف هذا الاعتراف مواجهة مع الرأي السائد. يدحض ''أبودايم الكعبي'' في كتابه من خلال التركيز على استقلالية دولة كعب عن العراق الكثير من الجهود التي كان ولا يزال يروج لها عدد كبير من الباحثين للتعريف بالقضية الأحوازية من منطلق أنّ الأحواز امتداد تأريخي للعراق وللدولة العراقية وما شابه ذلك. من هنا تأتي محاولة كتاب ''قبيلة كعب'' الوحدوية في إطار المحاولات القبلية التي تبذل من قبل أنصار القبيلة، ولأنّ العراق يعرف على أنه بلد له جذور قبلية في المنطقة، وهذا من شأنه أن يؤثر في مد جسور التعاون والتقارب بين الشعبين الأحوازي والعراقي لتجاوز الحدود التي تفصل بينهما. ينشر مؤلف كتاب قبائل كعب خرائط ووثائق في كتابه تبين خريطة حكم الكعبيين في الأحواز، الذي يمتد من باب السلام إلى شط العرب، وكذلك نسبهم الذي يعود إلى كعب بن عامر بن صعصعة، وهم من عدنان ومن القبائل العربية التي سكنت وتفرعت من شبه الجزيرة العربية ويتعمق في ذكر الأفخاذ والبطون والعشائر والقبائل التي تنتمي إلى كعب. من ثم ينتقل في الفصل الخامس من كتابه إلى حضارة كعب وعلاقتها الجيدة ورعايتها المتميزة لمعتنقي الأديان السماوية كافة واحتضانها على سبيل المثال للأشوريين والكلدان والسريان والصابئة وبقية أتباع الأديان السماوية والتبادل الثقافي والمساعدات التي يقدمها أبناء كعب لهم بعيداً عن المنطلق الطائفي والديني والتبادل الرعوي بين إمارة كعب في المحمرة في عهد خزعل والكنيسة الكلدانية ما يبين مدى تحضر إمارة كعب في ذلك التأريخ وتفوقها على العديد من أنظمة الحكم في المنطقة آنذاك. إنّ قبائل كعب على حد وصف ''أبودايم الكعبي'' في كتابه ''قبائل كعب'' لم تفرق بين أبنائها الطائفية، فهنالك أتباع الطائفة الشيعية كما هناك أتباع الطائفة السنية يتبادلون المحبة والعلاقة القبلية بينهم دون أي أثر للنزاعات والصراعات الطائفية الطاحنة التي أصبحت السمة البارزة التي تباعد بين أبناء الشعب الواحد ومن سمات منطقتنا مع الأسف. إنّ تأليف كتب كهذه ومحاولة التعريف بماض وجذور الشعوب تعتبر من مميزات العصر الحديث لبقاء الشعوب صامدة بوجه التغير السريع الذي بدأ يطرأ على العالم والتكيف مع العولمة مثلما تفعل شعوب أخرى مثل اليابان ودول شرق آسيا من مواءمة بين حضارتها وثقافتها من جهة وبين العولمة والحداثة، وما بعدها من جهة أخرى شريطة أن تركز مثل هذه الجهود على الوحدة والحفاظ على التراث من منظار عقلاني حديث ومقاومة الفصل العنصري الذي تقيمه الدول ضد الشعوب. فيمكن لأبناء القبيلة والشعب العربي عموماً أن يبحثا عن الوحدة من منطلق عروبي إنساني حضاري بنفس الوقت بعيدا عن العصبية وتطرف الانتماء للطائفة والمذهب، حيث إنّ هذه الركيزة والتوجه الجديد الذي من شأنه العودة بشعوبنا التي فرقتها الحدود وأبعدتها حواجز الفصل أن تلتف حول مفاهيم جديدة لكن بصياغات حديثة أيضاً. فمن خلال التركيز على البعد الإنساني للقبيلة للحفاظ على ماضينا المشرف وليس لإثارة النعرات القبلية وإحياء العصبية الجاهلية والتفرقة من شأنها مواكبة الحضارة الحديثة ومواءمتها مع انتماءاتنا عبر مفاهيم جديدة وأدوات مبتكرة تتلاءم ومتطلبات العصر والتقدم الإنساني الهائل الذي يشهده العالم ولم يستوعبه العربي، بعد فشئنا أم أبينا تبقى القبيلة جسراً للتواصل بين جميع العرب لما تحمله من معان إنسانية نبيلة وصفات وخلق وفضيلة كادت المتغيرات والحداثة أن تقضي عليها لولا أنّ الهوية تضرب جذورها في الأعماق ويصعب اقتلاعها لو ترسخت في عقول أبنائها.
إنشرها