فقه دقيق وفهم عميق
قال ابن كثير : خرج عبد الله بن المبارك إلى الحج ، فاجتاز ببعض البلاد ، فمات طائرٌ معهم ، فأمر بإلقائه في قمامة البلدة ، وسار أصحابه أمامه ، وتخلف هو وراءهم ، فلما مر بالقمامة إذا بجارية قد خرجت من دار قريبة ، وأخذت ذلك الطائر الميت ، ثم أسرعتْ به إلى الدار ، فجاء ابن المبارك ، وسألها عن أمرها ، وأخْذِها الطائرَ الميت ، فاستحيت أولا ً، ثم قالت : أنا وأمي هنا ، وليس لنا شيء إلا هذا الإزار ، وليس لنا قوت إلا ما يُلقى على هذه القمامة ، وكان لنا والد ذو مال عظيم، أُخذ ماله ، وقتل لسبب أو بآخر ، ولم يبقَ عندنا شيء نتبلّع به ، أو نقتات منه!.
سمع ذلك ابن المبارك فدمعت عيناه ، وأمر بردِّ الأحمال والمؤونة ، وقال لوكيله : كم معك من النفقة ؟ قال : ألف دينار ، فقال له : أبقِ لنا عشرين ديناراً تكفينا لإيابنا ، وأعطِ الباقي إلى هذه المرأة المصابة ، فو الله لقد أفجعتني بمصيبتها. ثم قال : وإن هذا أفضل عند الله من حجنا هذا العام ، ثم قفل راجعاً ، ولم يحج ، واعتقد أن هذه الصدقة فوق الحج المبرور ، والسعي المشكور.
وسأل رجلٌ ذا النون المصري قائلا ً: عندي مائة درهم، أأحجُ بها أم أتصدقُ ؟ قال ذو النون : أحَجَجْتَ الفرضَ ؟ قال : نعم ، قال : إن قسمتَها على عشرٍ من العائلات الفقيرة ، وأعطيت كلاً عشرةَ دراهم كان ذلك خيراً عند الله من حجةِ النفل ، فإن شئت فاسمع مني ما أقول. ففعل الرجل ، وتصدَّق بالمال.
وجاء رجل يودع بِشر بن الحارث وقال : قد عزمت على الحج ، أفتأمرني بشيء ؟ فقال : كم أعددت للنفقة ؟ فقال : ألفي درهم. قال بِشر : فأي شيء تبتغي بحجك ؟ تزهدا أو اشتياقا إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله ؟ قال : ابتغاء مرضاة الله. قال : فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى أتفعل ذلك ؟ قال : نعم. قال : اذهب فأعطها عشرة أنفس : مديونٍ يقضي دينه ، وفقيرٍ يرم شعثه ، ومعيلٍ يغني عياله، ومربي يتيم يفرحُه. وإن قوي قلبك تعطيها واحداً فافعل ، فإن إدخالك السرور على قلب المسلم ، وإغاثة اللهفان ، وكشف الضر ، وإعانة الضعيف ، أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام.
وقيل لبِشر أيضاً : إن فلاناً الغني كثيرُ الصوم والصلاة، فقال : المسكينُ ترك حاله ودخل في حال غيره ! وإنما حال هذا إطعام الطعام للجياع والإنفاق على المساكين ، فهذا أفضل له من تجويعه نفسه ومن صلاته لنفسه من جمعه للدنيا ومنعه للفقراء!.
فما أحوجنا إلى هذا الفقه الدقيق والفهم العميق لمقاصد الدين حتى نستطيع ترتيب الأولويات. أقول هذا وأراني ومن حولي لا نتعظ ولا نفقه. فهذا يأتي إلى المسجد ويضع سيارته بحيث يسد الطريق على غيره ، أو قد يضعها أمام عمارة فيمنع أهلها من الاستفادة من حقهم في وضع سياراتهم أمام منازلهم، أو قد يضع سيارته بلا انتظام فيأخذ مكان سيارتين أو أكثر. وقد قلت لمن فعل هذا كله دفعة واحدة : لِمَ هذا؟.
قال: أريد أن أدرك الصف الأول ! قلت : ولو لم يستطع غيرك أن يصلي أبدا ً؟! فقد يأتي بعدك من لا يجد مكاناً لسيارته فيتابع طريقه ولا ينزل إلى الصلاة ! فمضى إلى المسجد مسرعاً إلى هدفه وكأني لم أكلمه! فهل ما ربحه من حسنات الصف الأول أكبر مما أصابه من أنانيته ليقال عنه في علم التجارة إنه قد حقق ربحاً ؟ وأين هذا من فعل ابن عباس رضي الله عنه وقد كان معتكفاً في المسجد ذات يوم فخرج من المسجد ليمشي في حاجة رجل مهموم، وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (لأن أمشي في حاجة أخي حتى أقضيها أحب إلي من أعتكف في المسجد شهراً).