«ساهر» وتهذيب السلوك

مضى حوالي عام ونصف العام فقط على انطلاقة مشروع ''رصد وضبط المخالفات المرورية إلكترونياً ''الذي يعرف باسم نظام ''ساهر''. إذ كانت بداية تطبيق المرحلة الأولى من المشروع في5/5/1431هـ في منطقة الرياض، ثم تلتها المناطق الرئيسة الأخرى في المملكة تباعا. ورغم قصر تلك المدة التي انقضت، فإن الإحصاءات الأولية مقارنة بفترة ما قبل تطبيق النظام الجديد تشير إلى انخفاض كبير في عدد الوفيات الناجمة عن حوادث السير، وكذا الحال بالنسبة للإصابات من جروح وعاهات التي تخلّفها عادة السرعة الزائدة وتجاهل قواعد استخدام الطرق ومن أخطرها بالطبع تخطي الإشارات الحمراء. ولعل مما يجدر ذكره هنا أن (الاقتصادية) كان لها قصب السبق في الكشف عن ذلك النظام قبل حوالي ستة أعوام عندما نشرت خبر طرح المشروع في منافسة عالمية وفق أسلوب تعاقدي من أساليب التخصيص يطلق عليه ''BOT''، والذي يتلخص في إسناد مسؤولية تنفيذ كامل مراحل المشروع إلى مستثمر من القطاع الخاص ابتداء من مرحلة التمويل ثم التصميم إلى مرحلة البناء والتجهيز، ومن ثم التشغيل طول مدة العقد حيث تؤول في نهايته ملكية المنشآت والتجهيزات إلى الجهة صاحبة المشروع.
وكنت يومئذ من بين الذين رحبّوا بتلك الخطوة وأشادوا بها، إذ كتبت مقالا عن تطلعاتنا للمنافع التي سيحققها المشروع عند اكتماله في مجال الأمن والسلامة وتقليص حوادث السير والحفاظ على أرواح الناس، وهي منافع كبيرة جداً كيفما نظرنا إليها (الاقتصادية في 26/2/1426هـ). وأشرت يومها إلى أن الأسلوب الذي اختارته وزارة الداخلية بإسناد رصد وضبط المخالفات المرورية إلكترونياً إلى القطاع الخاص لقاء المشاركة في الإيرادات التي تُحصّل من تلك المخالفات ينسجم مع أهداف استراتيجية التخصيص التي سبق وأن أقرها المجلس الاقتصادي الأعلى ومن بينها رفع كفاية الأداء في الخدمات العامة، وترشيد الإنفاق العام والتخفيف عن كاهل ميزانية الدولة بإتاحة الفرصة للقطاع الخاص لتمويل وتشغيل وصيانة بعض الخدمات التي يمكنه القيام بها. ليس ذلك فحسب بل إنها مبادرة تُحمد لوزارة الداخلية، إذ إن الخبرة المكتسبة في الإعداد لذلك العقد وإدارته ستكون متاحة للقطاعات الأخرى في الوزارة وخارجها، كما أنها ستضيف لرصيد الخبرة التي اكتسبتها المملكة في مجال التخصيص والتي كان باكورتها برنامج تخصيص خدمات الموانئ في عام 1417هـ.
هناك بالطبع نماذج وأشكال متعددة للتخصيص، إلا أن أسلوب المشاركة في الإيرادات، وليس الأرباح، الذي بُني عليه نموذج نظام ''ساهر'' يحمل في ثناياه الكثير من الضوابط والآليات سهلة التطبيق للرقابة على الجوانب المالية للعقد وكذلك الرقابة على مستوى الأداء، وهي أدوات لا بد من توافرها لتعزيز مبدأ الشفافية. لذا يعد ذلك النموذج لنظام ''ساهر'' خطوة متقدمة في الإدارة العامة ويشكل نجاحه حافزا لقطاعات أخرى كالبلديات والصحة لمحاكاته.
من بين المنافع الكبيرة التي حققها نظام ''ساهر''، إلى جانب رفع مستوى السلامة على الطرق والحفاظ على أرواح الناس، هو تهذيب السلوك العام وتأسيس ثقافة جديدة في المجتمع ترتكز على احترام حقوق الآخرين في استخدام المرافق العامة. تلك الثقافة بدأنا نلمسها ليس فقط في استخدام الطريق، ولكن أيضا في بعض الأماكن العامة الأخرى كأرصفة المشاة، الحدائق، مراكز التسوق، المطارات، المدارس، وغيرها. ذلك الانضباط في السلوك وإن كان لا يزال متواضعا حتى الآن ودون مستوى التطلعات، إلا أنه يعد نقلة نوعية في إصلاح خلل اجتماعي سلوكي كان علاجه يبدو مستعصيا إلى الأمس القريب. ترى من كان يحلم أن يأتي يوم يكتشف فيه المواطن السعودي أن سيارته بها مؤشر للسرعة أو يدرك أن الإشارة الحمراء هي إشارة للوقوف وليست للسير؟
إن من أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من نجاح تطبيق نظام ''ساهر'' هو أن السلوكيات المعوجة يمكن تقويمها بالحزم والمتابعة، وأن الكفاءات الوطنية، متى أُحسن اختيارها وتدريبها، قادرة على التعامل مع التقنيات الحديثة لخدمة المجتمع وسلامته. وإذ نشيد بما قدمه ''ساهر'' فإننا ننتظر منه المزيد من الخدمات الجديدة للمساهمة مع المؤسسات الأخرى كالتعليم والإعلام للارتقاء بسلوكيات المجتمع وتعويده على الانضباط كي نستعيد إرثنا من الأخلاق الإسلامية الحميدة دون تكلف أو حرج.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي