الأخلاق: الثقافات حين تصنع فرقا!
عندما سقطت بغداد سنة 2003م بيد قوات المحتل الأمريكي، لوحظت مظاهر الفوضى والنهب والسلب، حتى إن المتحف الوطني وغيره من المعالم التراثية سرقت وفقد الكثير من المقتنيات الأثرية، كما مزق الكثير من الوثائق الوطنية، إضافة إلى تدمير المصالح العامة، ونهب البنك المركزي. لم تقف المسألة عند هذا الحد، بل تبتعها تصفية حسابات شخصية لمصالح دول أجنبية، كان أولها حل الجيش العراقي، وتصفية كثير من الشخصيات الوطنية جسديا ومعنويا، تحت اسم (اجتثاث البعث).
تلك التصرفات لم يقم بها العراقيون العرب، بل عناصر أغلبها ينحدر من أصول فارسية، أو ممن لهم هوى إيراني لأسباب عقدية. وجود الجيش المحتل من أحفاد أصحاب ثقافة الكاوبوي، (التي تفننت في أكبر إبادة عرقية لمليونين من الهنود الحمر)، وفر غطاء لتلك العناصر الحاقدة على عروبة العراق، ووجهه العربي السني. لقد اجتمعت ضد العراق في ذلك الغزو المشؤوم ثقافتان حاقدتان: ثقافة المحافظين الجدد بقيادة بوش وتشيني ورامسفيلد، المحملين بالفكر الديني المتطرف بروحه الصليبية، وثقافة الفرس الصفويين الذين يحملون ثارات إمبراطورية أفلت على يد العرب المسلمين. كان من نتيجة هجمة تلك الثقافات العنصرية، أن قُتل أكثر من مليون عراقي وشرد كلاجئين في الداخل ودول الجوار، أكثر من أربعة ملايين عراقي. بل قامت تلك العصابات الهمجية العنصرية بتشكيل فرق موت عملت على تصفية أكثر من ألفين من العلماء وأساتذة الجامعات والطيارين وكبار الضباط العراقيين.
الصورة الأخرى على النقيض من ذلك تماماً. بعد سقوط طرابلس، وعلى الرغم من مقتل أكثر من 20 ألفا من أفراد الشعب المنتفض (من الثوار والمدنيين)، لم تحصل حالات سلب ونهب، أو اعتداء على الممتلكات العامة. كما أن الثوار بعد تمكنهم، لم ينتقموا من أحد بل اعتبروا أن من يضع سلاحه من كتائب القذافي آمن، ووصل الرقي بأخلاقهم الإسلامية العربية، أن أعطوا الأمان للابن الأكبر للقذافي، الذي لم يحترم ذلك التصرف الحضاري. اعتبر المجلس الانتقالي ما حصل صفحة من الماضي، فأعطى نموذجا لحركات التغيير الشريفة، التي لا تحركها نزعات انتقام، أو أحقاد عرقية أو طائفية أو قبلية.
هذا المبدأ الراقي في التعامل بعد النصر والتمكين، هو نفس الذي عمل به خير البرية الرسول الأعظم محمد - صلى الله عليه وسلم -، حينما دخل مكة فاتحا. فعلى الرغم مما حصل له ولأصحابه رضوان الله عليهم، من تعذيب وأذى وتهجير من قريش وأهل مكة، إلا أنه اعتبر أن كل ذلك من الماضي، الذي يجب أن يصفح عنه الكبار،لأن الأمم والمجتمعات، لا تبنى باستدعاء الأحقاد والثارات التاريخية، فقال عليه الصلاة والسلام لأهل مكة بعد أن أمّنهم، عبارته الشهيرة:"اذهبوا فأنتم الطلقاء". هذه الأخلاق الراقية لا تعرفها الثقافات الأوروبية أو الفارسية، حيث تاريخ طويل حافل بالانتقام، بل وحتى حاضر مليء بتصفية الخصوم حتى وإن لم يحملوا السلاح.
مشهد آخر للصورة يتكرر بإيحاء من ثقافة تعزز الكراهية والانتقام وإقصاء المخالفين. ففي الاحتجاجات التي وقعت في أكثر من بلد عربي، رأينا الفرق الشاسع بين ما حصل في مصر وتونس، مقارنة بمملكة البحرين الصغيرة. على الرغم من ضبط النفس الذي مارسته الحكومة البحرينية تجاه احتجاجات اتسمت بالعنف، والتحريض الطائفي، والاستقواء برموز دينية وسياسية أجنبية معادية، رأينا المتظاهرين يتلفون المؤسسات العامة، ويكسرون المدارس ويدمرون المباني الحكومية، ويعتدون بالضرب على رجال الأمن. ووصل الأمر بقتل بعضهم. حالة تشبه ما حصل في العراق، أبرز مظاهرها التشفي والانتقام وتصفية المخالف،كان من أبرز حالاتها قطع لسان مؤذن مسجد وقتله.
في مصر وتونس، فإنه على الرغم من سنوات المعاناة مع الجهات الأمنية وأسلوبها القاسي وغير الحضاري في تعاملهم مع مواطنيهم، إلا أن المحتجين لم يرفعوا سلاحاً ولم يتلفوا أيا من المصالح الحكومية، ولم يقتلوا رجل أمن. بل إنهم وحتى بعد انتصارهم لم يندفعوا للانتقام من الجلادين، بل طالبوا بأن تكون هنالك محاكمات عادلة وشفافة وأن ترجع الحقوق لأصحابها.
استقراء هذه الأحداث يجعل العربي المسلم يفتخر بهذا الرصيد الأخلاقي لثقافته، فهنالك فرق كبير جداً بين الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة وغيرها من الثقافات الأخرى. ظل العرب في ظل حضارة الإسلام، وخلال 14 قرناً مثالا رائعا في التعامل مع المخالفين، منبثق من تعاليم الدين الحنيف الذي دائماً يأمر بالصفح والتسامح، ويأمر أيضاً بألا يكون هنالك تجاوز في العقوبة، حيث قال الله تعالى (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولأن صبرتم لهو خير للصابرين). شهد التاريخ بذلك في قصة صلاح الدين الأيوبي وتعامله مع الصليبيين، وها نحن نراه يتكرر في أحداث المنطقة العربية في زمننا الحاضر.
الله أكبر ما أجملها من تعاليم، فالأمة التي تتحلى وتلتزم بتلك التعاليم يحق لها أن تكون خير أمة أخرجت للناس، بل هي المؤهلة لقيادة البشرية.